أَنَّ مَا حُكِيَ عَنْ الْفَقِيهِ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَى نَفَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ قَدْ حُكِيَ مِثْلُهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَكَابِرِ الْأَئِمَّةِ كَالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ وَالشَّيْخِ يَحْيَى بْنِ أَبِي الْخَيْرِ وَالْفَقِيهِ الْأَحْنَفِ وَغَيْرِهِمْ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَإِنَّمَا دَعَاهُمْ إلَى ذَلِكَ عُسْرُ الْأَمْرِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: ٧٨] اهـ. فَمَا نُقِلَ عَنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ صَحِيحٌ هَذَا النَّقْلُ فَمَا تَحْقِيقُ ذَلِكَ وَهَلْ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا؟
(فَأَجَابَ) مَا نُقِلَ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْمَذْكُورِينَ لَا بَأْسَ بِهِ فِي التَّقْلِيدِ فِيهِ لِعُسْرِ الْأَمْرِ فِيهِ سِيَّمَا الْأَخِيرَتَانِ وَمَعْنَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا لَا يُفْتَى فِيهَا عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَام الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِمَنْ اسْتَفْتَى فِي ذَلِكَ أَنْ يُرْشِدَهُ مُسْتَفْتِيه إلَى السُّهُولَةِ وَالتَّيَسُّرِ وَيُبَيِّنُ لَهُ وَجْهَ ذَلِكَ بِذِكْرِ الشُّرُوطِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَإِنْ وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى تَحَمُّلِ تِلْكَ الْمَشَاقِّ وَرِعَايَةِ مَذْهَبِهِ فَهُوَ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى لِكَثْرَةِ الْخِلَافِ فِي جَوَازِ التَّقْلِيدِ وَعُسْرِ اسْتِيفَاءِ شُرُوطِهِ إذْ يَلْزَمُ مَنْ قَلَّدَ إمَامًا فِي مَسْأَلَةٍ أَنْ يَعْرِفَ جَمِيعَ مَا يَتَعَلَّقُ بِتِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فِي مَذْهَبِ ذَلِكَ الْإِمَام وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّلْفِيقُ مِثَالُ ذَلِكَ مَنْ قَلَّدَ مَالِكًا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي طَهَارَةِ الْكَلْبِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي مُرَاعَاةِ سَائِرِ مَا يَقُولُ بِهِ مِنْ النَّجَاسَاتِ كَالْمَنِيِّ وَيَلْزَمُهُ أَنْ يُرَاعِيَ مَذْهَبَهُ فِي الطَّهَارَةِ كَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ فَيَمْسَحُ رَأْسَهُ كُلَّهَا فِي وُضُوئِهِ وَيُوَالِي فِي وُضُوئِهِ وَغُسْلِهِ وَيَدْلُكُ أَعْضَاءَهُ فِيهِمَا وَكَذَلِكَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُرَاعِيَ مَذْهَبَهُ فِي الصَّلَاةِ فَيَأْتِي بِجَمِيعِ مَا يُوجِبُهُ فِيهَا وَمَتَى لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كَأَنْ مَسَّهُ كَلْبٌ فَلَمْ يُسَبِّعْ ثُمَّ مَسَحَ بَعْضَ رَأْسِهِ فِي وُضُوئِهِ وَصَلَّى كَانَتْ صَلَاتُهُ بَاطِلَةً بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَمْ يَجُزْ عَلَى مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَحْدَهُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَلَا عَلَى مَا قَالَهُ مَالِكٌ وَحْدَهُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -.
وَإِنَّمَا لَفَّقَ بَيْن الْمَذْهَبَيْنِ فَكَانَتْ طَهَارَتُهُ مِنْ النَّجَاسَةِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَوُضُوءُهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَكُلٌّ مِنْ الطَّهَارَتَيْنِ مُشْتَرَطٌ لِلصَّلَاةِ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْمَذْهَبَيْنِ لِأَنَّهُ مَتَى حَصَلَ تَلْفِيقٌ فِي التَّقْلِيدِ كَانَ التَّقْلِيدُ بَاطِلًا وَكَذَا الْمَأْتِيُّ بِهِ مُلَفَّقًا بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا مَرَّ فَلْيُتَفَطَّنْ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَإِنَّ كَثِيرِينَ يُقَلِّدُونَ الْأَئِمَّةَ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ وَلَا يُرَاعُونَ ذَلِكَ فَيَقَعُونَ فِي وَرْطَةِ التَّلْفِيقِ فَتَبْطُلُ أَفْعَالُهُمْ بِالْإِجْمَاعِ وَحَيْثُ اتَّفَقَ مَالِكٌ مَثَلًا وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى حُكْمٍ مُخَالِفٍ لِلْمَذْهَبِ وَأَرَادَ الْإِنْسَان التَّقْلِيدَ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ فَالْأَوْلَى تَقْلِيدُ مَالِكٍ لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ مُطْلَقٌ بِالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا بَعْضُ الْأَصْحَابِ فَلَيْسَ مُجْتَهِدًا كَذَلِكَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) هَلْ يَحِلُّ أَخْذُ الزَّكَاةِ لِمَنْ اشْتَغَلَ بِعِلْمٍ شَرْعِيٍّ يَشْتَرِي بِهَا كُتُبًا وَكُلَّ مَا يُعِينهُ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ أَوْ لَا؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ إنَّ مَنْ اشْتَغَلَ عَنْ كَسْبِهِ الْحَلَالِ اللَّائِقِ بِهِ الَّذِي يَكْفِيه وَيَكْفِي مُمَوِّنَهُ بِتَعَلُّمٍ شَرْعِيٍّ أَوْ آلَةٍ لَهُ وَكَانَ يَتَأَتَّى مِنْهُ أَوْ بِتَعَلُّمِ الْقُرْآنِ دُونَ نَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ جَازَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الزَّكَاةِ بِقَدْرِ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ مُمَوِّنِهِ اللَّائِقَةِ بِهِمْ الْعُمْرَ الْغَالِبَ ثُمَّ مَا أَخَذَهُ يَصِيرُ مِلْكَهُ فَلَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ فِي شِرَاءِ كُتُبِ عُلُومِ الشَّرْعِ وَآلَاتِهَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَسُئِلْت) عَنْ قَوْلِ الْمِنْهَاجِ وَالْمِسْكِينُ مَنْ قَدَرَ عَلَى مَالٍ أَوْ كَسْبٍ إلَخْ هَلْ الْمُرَادُ كِفَايَتُهُ سَنَةً أَوْ الْعُمْرَ الْغَالِبَ وَكَمْ مِقْدَارُ الْكِفَايَةِ (فَأَجَبْت) بِقَوْلِي الْمُرَادُ كِفَايَتُهُ الْعُمْرَ الْغَالِبَ عَلَى الْأَصَحِّ وَالْمُرَادُ بِالْكِفَايَةِ كِفَايَةُ نَفْسِهِ وَمُمَوِّنِهِ حَالَ إعْطَائِهِ الزَّكَاةَ الْكِفَايَةَ اللَّائِقَةَ بِهِ وَبِهِمْ عُرْفًا مَأْكَلًا وَمَشْرَبًا وَمَلْبَسًا وَمَسْكَنًا وَغَيْرَهَا مِنْ سَائِرِ وُجُوهِ الْكِفَايَاتِ نَعَمْ يَبْقَى النَّظَرُ فِيمَا لَوْ كَانَ عِنْدَهُ صِغَارٌ وَمَمَالِيكُ وَحَيَوَانَاتٌ فَهَلْ نَعْتَبِرُهُمْ فِي الْعُمْرِ الْغَالِبِ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُمْ وَبَقَاءُ نَفَقَتِهِمْ عَلَيْهِ أَوْ بِقَدْرِ مَا يَحْتَاجُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَطْفَالِ بِبُلُوغِهِمْ وَإِلَى الْأَرِقَّاءِ بِمَا بَقِيَ مِنْ أَعْمَارِهِمْ الْغَالِبَةِ وَكَذَلِكَ الْحَيَوَانَاتُ لِلنَّظَرِ فِي ذَلِكَ مَجَالٌ وَكَلَامُهُمْ يُومِئُ إلَى الْأَوَّلِ لَكِنَّ الثَّانِي أَقْوَى مُدْرَكًا فَإِنْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهِ تَعَيَّنَ الْأَوَّلُ.
(وَسُئِلْت) رَجُلٌ عَلَيْهِ زَكَاةٌ أَفْرَزَهَا وَنَوَى فَسَرَقَهَا أَوْ غَصَبَهَا مُسْتَحِقٌّ فَهَلْ يَقَعُ الْمَوْقِعَ أَوْ لَا فَمَا فَائِدَةُ أَخْذِهَا مِنْهُ وَرَدِّهَا إلَيْهِ (فَأَجَبْت) لَا يَقَعُ الْمَسْرُوقُ وَلَا الْمَغْصُوبُ الْمَوْقِعَ وَلَوْ بَعْدَ النِّيَّةِ وَالْإِفْرَازِ لِأَنَّهُ بِهِمَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِ الْمَالِكِ إذْ لَهُ الْإِخْرَاجُ مِنْ غَيْرِهِ فَإِذَا أَخَذَهُ مُسْتَحِقٌّ لَمْ يَمْلِكْهُ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute