السُّكُوتُ عَمَّا لَا يَعْنِيهِ وَتَسْلِيمُ الْقَوْسِ إلَى بَارِيهَا إذْ هِيَ مَائِدَةٌ لَا تَقْبَلُ التَّطَفُّلَ وَلَا يَصِلُ إلَى حَوْمَةِ حِمَاهَا الرَّحْبِ الْوَسِيعِ إلَّا مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ بِغَايَاتِ التَّوْفِيقِ وَالتَّفَضُّلِ. وَتَأَمَّلْ أَيْضًا قَوْلَهُ إنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ أَطْبَقُوا عَلَى الْعَمَلِ بِبُطْلَانِ الدَّوْرِ.
وَتَأَمَّلْ أَيْضًا قَوْلَهُ عَنْ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَقَدَّمْتُهُ عَنْهُ أَيْضًا: إنَّ التَّقْلِيدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِلْقَائِلِينَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ حَرَامٌ وَفُسُوقٌ وَهَلَاكٌ فَهَلْ بَقِيَ بَعْدَ هَذَا تَشْدِيدٌ وَتَغْلِيظٌ بَلْ جَمَعَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الْمُلَقَّبُ بِسُلْطَانِ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الثَّلَاثِ مَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ بَعْدَ أَنْ سَمِعَ ذَلِكَ أَنْ لَا يُقَلِّدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْقَائِلَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ وَلَا يَعْمَلُ بِذَلِكَ وَلَا يُعَوِّلُ عَلَيْهِ وَلَا يُفْتِي بِهِ لَا يُعَلِّمُهُ لِعَامِّيٍّ، وَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ بَاءَ بِعَظِيمِ هَذَا الْإِثْمِ وَازْدَادَ فُسُوقُهُ وَحَقَّ هَلَاكُهُ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ آمِينَ. وَسُئِلَ الْكَمَالُ الرَّدَّادُ عَنْ ذَلِكَ مَرَّةً أُخْرَى مِنْ فَقِيهِ الشَّجَرِ وَعَالِمِهِ باسرومي بِمَا حَاصِلُهُ: قَدْ أَحَاطَ عِلْمُ سَيِّدِي بِاخْتِلَافِهِمْ فِي طَلَاقِ الدَّوْرِ وَالْغَرَضُ بَيَانُ مَا يَتَرَجَّحُ لَكُمْ فِيهِ وَلَوْ حَكَمَ بَعْضُ قُضَاةِ الْعَصْرِ بِصِحَّةِ طَلَاقِ التَّنَافِي، أَوْ بِبُطْلَانِهِ فِي امْرَأَةٍ بِخُصُوصِهَا لِأَجْلِ التَّرَافُعِ عِنْدَهُ فَهَلْ يَنْفُذُ حُكْمُهُ أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِخِلَافِ الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ حَتَّى قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنَّ الْحُكْمَ بِخِلَافِ الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ مُنْدَرِجٌ فِي الْحُكْمِ بِخِلَافِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَعَمْ ذَكَرُوا أَنَّ الْحَاكِمَ يَجْتَهِدُ وَيَحْكُمُ بِمَا ظَهَرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الصَّحِيحِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الِاجْتِهَادَ قَدْ طُوِيَ بِسَاطُهُ وَقُضَاةُ زَمَانِنَا أَمْرُهُمْ غَيْرُ خَافٍ لَكِنَّهُمْ ذَكَرُوا هُنَا أَنَّهُ لَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ لَمْ يُنْقَضْ حُكْمُهُ وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى الْأَقْوَالِ فَهَلْ شَرْطُهُ بُلُوغُ الِاجْتِهَادِ، أَوْ لَا؟
فَأَجَابَ الْكَمَالُ الرَّدَّادُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِقَوْلِهِ: الْمُعْتَمَدُ فِي الْفَتْوَى أَنَّهُ يَقَعُ الْمُنَجَّزُ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي الشَّرْحِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: إنْ أَوْرَدَ مَا قَدَّمْته عَنْ التَّدْرِيبِ وَقَوْلِ صَاحِبِهِ الْإِمَامِ الْبُلْقِينِيُّ: النَّقْلُ الثَّانِي عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ وَصَحَّحَهُ أَنَّهُ يَقَعُ الْمُنَجَّزُ فَقَطْ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْفَتْوَى وَلَوْ حَكَمَ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ حَاكِمٌ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ لَمْ يُنْقَضْ حُكْمُهُ أَمَّا الْمُقَلِّدُ لِلشَّافِعِيِّ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فَحُكْمُهُ كَالْعَدَمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ بِخِلَافِ الصَّحِيحِ. اهـ
الْمَقْصُودُ مِنْ كَلَامِهِ وَمَا أَشَارَ إلَيْهِ السَّائِلُ وَالْمُجِيبُ مِنْ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ الْمُقَلِّدِ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ حُكْمٌ بَاطِلٌ لَا يُعْتَدُّ بِهِ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ هُوَ الصَّوَابُ الْجَارِي عَلَى الْقَوَاعِدِ فَلَا مَحِيدَ عَنْهُ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الْحُكَّامِ فَحَكَمَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ كَانَ آثِمًا وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي حَقِّهِ {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: ٤٧] أَشَارَ إلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ السُّبْكِيّ وَمَا أَشَارَ إلَيْهِ أَيْضًا مِنْ أَنَّ قَوْلَهُمْ: لَوْ حَكَمَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ حَاكِمٌ يَرَاهُ نَفَذَ حُكْمُهُ مَحَلَّهُ فِي حَاكِمٍ مُجْتَهِدٍ هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا يُعَوَّلُ عَلَى غَيْرِهِ أَيْضًا؛ بِدَلِيلِ كَلَامِهِمْ فِي بَابِ الْقَضَاءِ وَمَعْلُومٌ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ السَّائِلُ أَنَّ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ قَدْ انْقَطَعَتْ مِنْ مُنْذُ مِئَاتٍ مِنْ السِّنِينَ فَلَيْسَ لِقَاضٍ الْآنَ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ بَلَغَ تِلْكَ الرُّتْبَةَ حَتَّى يَجُوزَ حُكْمُهُ بِالضَّعِيفِ بَلْ مَتَى حَكَمَ قَاضٍ بِوَجْهٍ، أَوْ قَوْلٍ ضَعِيفٍ رُدَّ حُكْمُهُ عَلَيْهِ وَكَانَ ذَلِكَ قَادِحًا فِي وِلَايَتِهِ وَعَدَالَتِهِ إذَا تَقَرَّرَتْ لَك هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ عَلِمْت قَبِيحَ مَا صَنَعَهُ هَذَا الزَّهْرَانِيُّ مِنْ تَجَرُّئِهِ عَلَى الْأَمْرِ بِرَدِّ النِّسَاءِ وَإِفْتَائِهِ أَزْوَاجَهُنَّ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قَبَائِحِهِ الشَّنِيعَةِ كَقَوْلِهِ: إنَّ عُلَمَاءَ الْيَمَنِ صَحَّحُوا الدَّوْرَ وَأَفْتَوْا بِهِ وَقَدْ ظَهَرَ لَك بِمَا سُقْته عَنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ مِنْ عُلَمَاءِ الْيَمَنِ بُطْلَانُ هَذِهِ الدَّعْوَى الَّتِي ادَّعَاهَا وَأَنَّ عُلَمَاءَ الْيَمَنِ مُخْتَلِفُونَ كَغَيْرِهِمْ وَحِكَايَتُهُ لِلشِّعْرِ الَّذِي ذَكَرَهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَهْلِهِ وَجَهْلِ هَذَا الشَّاعِرِ وَكَذِبِهِمَا وَافْتِرَائِهِمَا وَمُبَالَغَتِهِمَا فِي الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ مِمَّا لَمْ تَخْفَ قَبَاحَتُهُ وَشَنَاعَتُهُ عَلَى أَحَدٍ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الشَّاعِرَ قَالَ: قَدْ حَكَمَتْ بِهَا جَمِيعُ قُضَاةِ الْخَلْقِ وَأَفْتَوْا بِهَا وَفِي هَذَا مِنْ الْكَذِبِ وَالْجَرَاءَةِ مَا يَقْتَضِي فِسْقَ قَائِلِهِ وَمَنْ تَبِعَهُ كَهَذَا الزَّهْرَانِيِّ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ نَوَاحِيَ مِصْرَ وَالشَّامِ وَنَاهِيكَ بِهَذَيْنِ الْإِقْلِيمَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا مَحَلُّ الْعُلَمَاءِ الْمُعَوَّلِ عَلَيْهِمْ فِي تَحْرِيرِ الْمَذْهَبِ وَتَنْقِيحِهِ كُلِّهِمْ قَاطِبَةً عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الدَّوْرِ وَبِحَمْدِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute