للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

اللَّهِ تَعَالَى لَمْ نَسْمَعْ قَطُّ عَنْ أَحَدٍ مِنْ قُضَاةِ هَذَيْنِ الْإِقْلِيمَيْنِ أَنَّهُ حَكَمَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَائِهِمَا فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ أَنَّهُ أَفْتَى بِصِحَّتِهِ وَإِنَّمَا كَلَامُهُمْ فِي كُتُبِهِمْ نَاطِقٌ بِبُطْلَانِ الدَّوْرِ فَمَعَ ذَلِكَ كَيْفَ سَاغَ لِهَذَا الشَّاعِرِ هَذَا الْكَذِبُ الصُّرَاحُ أَمَا عَلِمَ أَنَّهُ مِنْهُ كَذِبٌ وَمُفَسِّقٌ؟ لَكِنْ مَنْ هُتِكَ عِرْضُهُ وَعَدِمَ دِينَهُ وَمُرُوءَتَهُ لَا يُبَالِي بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى أَفْعَالِهِ الْقَبِيحَةِ وَأَقْوَالِهِ الْبَاطِلَةِ الصَّرِيحَةِ وَقَوْلُ هَذَا الشَّاعِرِ أَيْضًا: وَاتَّبَعُوا الْجُمْهُورَ وَقَوْلُهُ فَقَلَّدُوهَا جُمْهُورَنَا قَدْ مَرَّ رَدُّهُ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ هُنَا وَقَوْلُهُ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ. . . إلَخْ

وَقَوْلُ هَذَا الزَّهْرَانِيِّ: إنَّهَا لَمَّا وَقَعَتْ عَلَى خَاطِرِ ابْنِ سُرَيْجٍ. . . إلَخْ يُقَالُ عَلَيْهِ هَذَا مِمَّا يُعْلِمُك أَيْضًا بِجَهْلِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ وَيُوَضِّحُ لَك مَا انْطَوَيَا عَلَيْهِ مِنْ السَّفَاهَةِ وَالْغَبَاوَةِ وَالْجَهْلِ بِالْقَوَاعِدِ وَالْمَآخِذِ وَالْمَقَاصِدِ وَأَنَّهُمَا لَا يَتَأَمَّلَانِ مَا يَقُولَانِهِ وَلَا يَفْهَمَانِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وَأَنَّهُمَا بِالْأَنْوَامِ أَشْبَهُ، إذْ لَا يَصْدُرُ هَذَا الْكَلَامُ إلَّا مِمَّنْ عَدِمَ لُبَّهُ وَزَادَ جَهْلُهُ وَاسْتَحْكَمَتْ غَبَاوَتُهُ وَحَقَّتْ شَقَاوَتُهُ، كَيْفَ وَهَذِهِ الْحِكَايَةُ رُبَّمَا تُؤَدِّي إلَى كُفْرٍ؛ لِأَنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي اعْتِقَادِ هَذَا الزَّهْرَانِيِّ أَنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى خَاطِرِ ابْنِ سُرَيْجٍ فَعَلِمَهَا وَلَمْ يَعْلَمْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ ابْنَ سُرَيْجٍ، أَوْ أَجَلَّ مِنْهُ عَلِمَ عِلْمًا حَقًّا وَجَهِلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ كَافِرًا مُهْدَرَ الدَّمِ؛ لِأَنَّهُ مُرْتَدٌّ عَنْ الْإِسْلَامِ فَحَدُّهُ الْقَتْلُ إنْ لَمْ يَتُبْ وَيُجَدِّدْ إسْلَامَهُ وَمَنْ اسْتَمَرَّ عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ كَانَ كَافِرًا مُرْتَدًّا مُحَارِبًا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَأَمَّلْ عَظِيمَ مَا فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ مِنْ الْقَبِيحِ، وَقَوْلُهُ صَدَقَ الْقَلَمُ وَصَدَقَ اللَّوْحُ فَصَدَقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ مَسْأَلَةٌ أَنْزَلْتهَا عَلَى لِسَانِ أَحَدِ عُلَمَائِي فَإِنَّ هَذَا تَصْرِيحٌ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ بِأَنَّ ابْنَ سُرَيْجٍ أُوحِيَتْ إلَيْهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَإِنَّهُ قَالَ: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْزَلَهَا عَلَى لِسَانِهِ وَظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى لِسَانِهِ بِالْوَحْيِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ مَلَكٍ وَلَا غَيْرِهِ وَهَذَا الِاعْتِقَادُ مِنْ أَقْبَحِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ إذْ مَنْ اعْتَقَدَ وَحْيًا مِنْ بَعْدِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ كَافِرًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الْحِكَايَةَ قَدْ اشْتَمَلَتْ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْكُفْرِ أَشَرْت لَك إلَى بَعْضِهَا وَلَوْ جَاءَ هَذَا الزَّهْرَانِيُّ إلَى مَكَّةَ لَعُومِلَ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُهُ هَذَا مِنْ الْكُفْرِ وَغَيْرِهِ إنْ لَمْ يُجَدِّدْ إسْلَامَهُ وَيَتُبْ وَيَرْجِعْ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ هَذِهِ الْمُجَازَفَاتِ وَلَيْتَهُ اقْتَصَرَ عَلَى الْمُجَازَفَاتِ الْمُقْتَضِيَةِ لِفِسْقِهِ؛ لِأَنَّ إسْلَامَهُ مَعَ ذَلِكَ بَاقٍ وَأَمَّا مُجَازَفَاتٌ تُؤَدِّي إلَى الْكُفْرِ وَالْخُرُوجِ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ إلَى دِينٍ أَقْبَحَ مِنْ دِينِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ وَالْمَجُوس فَلَا يُطِيقُ مَنْ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى ذَرَّةٍ مِنْ الْإِيمَانِ الصَّبْرَ عَلَى ذَلِكَ فَأَسْأَلُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمَنَّانَ بِفَضْلِهِ أَنْ يَتُوبَ عَلَى هَذَا الزَّهْرَانِيِّ، أَوْ يُطَهِّرَ الْأَرْضَ مِنْهُ وَمِنْ أَمْثَالِهِ فَإِنَّهُمْ فِتْنَةٌ أَشَدُّ عَلَى الْعَوَامّ مِنْ فِتْنَةِ إبْلِيسٍ وَجُنُودِهِ عَامَلَهُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِعَدْلِهِ - آمِينَ.

وَتَأَمَّلْ مَزِيدَ جَهْلِهِ وَكَذِبِهِ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْحِكَايَةِ: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ صَحَّ هَذَا الْخَبَرُ فَجَعَلَ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْحِكَايَةُ الشَّرْعِيَّةُ وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ وَالْفِسْقِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ فَإِنَّهُ نَقَلَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ قَائِلُونَ بِصِحَّةِ هَذِهِ الْحِكَايَةِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَأَدْنَى الْعُلَمَاءِ بَرِيءٌ مِنْ أَنْ يَقُولَ فِي حِكَايَةٍ إنَّهَا صَحِيحَةٌ مَعْمُولٌ بِهَا مَعَ أَنَّهُ لَا أَصْلَ لِهَؤُلَاءِ يُعْتَمَدُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مِثْلِهَا مَعَ مَا أَدَّتْ إلَيْهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ الْقَبِيحَةِ الشَّنِيعَةِ. وَتَأَمَّلْ أَيْضًا مَزِيدَ جَهْلِهِ فَإِنَّ قَضِيَّةَ سِيَاقِهِ بَلْ صَرِيحِهِ أَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى لِسَانِ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنْكَرَهَا عَلَيْهِ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ فَلَمَّا جَرَتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ تَبِعَهُ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهَا فَلَمْ يَتْبَعُوهُ عَلَيْهَا إلَّا لِهَذِهِ الْحِكَايَةِ وَلَوْلَاهَا لَمْ يَتْبَعْهُ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَهَذَا كَلَامٌ بِالْخِرَافِ أَشْبَهُ لَكِنْ نُنَبِّهُ أَنَّ قَائِلَهُ وَصَلَ فِي الْجَهْلِ وَالْحُمْقِ إلَى غَايَةٍ قَبِيحَةٍ إذْ كَيْفَ يَنْسُبُ إلَى الْأَجِلَّاءِ التَّابِعِينَ لِابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُمْ إنَّمَا تَبِعُوهُ لِأَجْلِ حِكَايَةٍ فِيهَا أَنْوَاعُ الْكُفْرِ وَالْكَذِبِ هَذَا مَعَ مَا قَدَّمْته لَك أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَى ابْنِ سُرَيْجٍ كَالْمُزَنِيِّ وَبَعْضِ أَصْحَابِهِ عَلَى مَا قِيلَ قَالُوا بِصِحَّةِ الدَّوْرِ وَهَذَا مِمَّا يَزِيدُ لَك إيضَاحَ كَذِبِ هَذِهِ الْحِكَايَةِ وَأَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهَا وَأَنَّ قَائِلَهَا وَالْمُصَدِّقَ بِهَا كَاذِبٌ فَاسِقٌ فَإِنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>