للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

التَّوَاتُرِ بِمَعُونَةِ قَرِينَةٍ شُوهِدَتْ، أَوْ تَوَاتَرَتْ تُؤْذِنُ بِنَفْيِ الِاحْتِمَالَاتِ التِّسْعَةِ وَالْمُقَرَّرَةِ فِي مَحَلِّهَا وَهِيَ الْعِلْمُ بِعِصْمَةِ رُوَاةِ الْعَرَبِيَّةِ لُغَةً وَنَحْوًا وَصَرْفًا وَعَدَمِ النَّقْلِ وَعَدَمِ الْمَجَازِ وَعَدَمِ الِاشْتِرَاكِ وَعَدَمِ الْإِضْمَارِ وَعَدَمِ النَّسْخِ وَعَدَمِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَعَدَمِ الْمُعَارِضِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي لَوْ وُجِدَ لَقُدِّمَ عَلَى النَّقْلِيِّ قَطْعًا فَإِذَا وُجِدَتْ تِلْكَ الْقَرِينَةُ الْمُؤْذِنَةُ بِنَفْيِ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ أَوْرَثَتْ الْعِلْمَ بِمَضْمُونِ الْخَبَرِ النَّقْلِيِّ وَإِلَّا لَمْ تُفِدْ إلَّا الظَّنَّ.

وَبِالضَّرُورَةِ الْقَطْعِيَّةِ الْعِلْمُ بِحَقِيقَةِ هَذَا النَّبَاتِ مُتَعَسِّرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إلَى الْعِلْمِ بِهَا إلَّا خَبَرُ الصَّادِقِ وَهُوَ مَا يَئِسَ مِنْهُ إلَى أَنْ يَنْزِلَ عِيسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَزْكَى السَّلَامِ أَوْ التَّجْرِبَةُ وَهِيَ مُعْتَذِرَةٌ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ أَفَاضِلِ الْأَطِبَّاءِ فَإِنِّي لَمَّا سَأَلْتُهُ عَنْ هَذَا النَّبَاتِ قَالَ لِي إنَّهُ يُورِثُ مَضَارًّا مِنْهَا تَصْفِيرُ الْوَجْهِ وَتَقْلِيلُ شَهْوَةِ الطَّعَامِ وَتَفْتِيرُ الْبَاهِ وَإِدَامَةُ نُزُولِ الْوَدْيِ عَقِبَ الْبَوْلِ فَقُلْتُ مَا مُسْتَنَدُكَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَخْبَارُ الْمُسْتَعْمِلِينَ فَقُلْت لَهُ مَا يَكْفِي وَذَكَرْت لَهُ مَا يَأْتِي مِنْ التَّعَارُضِ ثُمَّ قُلْت لَهُ لَا بُدَّ أَنْ تَسْتَنِدَ إلَى حُجَّةٍ لَمْ يَقَعْ فِيهَا تَعَارُضٌ وَلَا نِزَاعٌ وَهِيَ التَّجْرِبَةُ فَقَالَ لَا يُمْكِنُنِي؛ لِأَنَّ التَّجْرِبَةَ تَسْتَدْعِي مِزَاجًا وَزَمَانًا وَمَكَانًا مُعْتَدِلَاتٍ وَعَدَالَةَ الْمُجَرِّبِ؛ لِأَنَّهُ يُخْبِرُ عَمَّا يَجِدَهُ مِنْ ذَلِكَ النَّبَاتِ فَلَا بُدَّ مِنْ عَدَالَتِهِ حَتَّى يُقْبَلَ إخْبَارُهُ.

وَذَلِكَ كُلُّهُ مُتَعَذِّرٌ فِي هَذِهِ الْأَقَالِيمِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُعْتَدِلَةٍ وَأَيْضًا فَوُجُودُ عَدْلٍ يُقْدِمُ عَلَى هَذَا النَّبَاتِ الْمَجْهُولِ لِيُجَرِّبَهُ مُسْتَبْعَدٌ فَقُلْت لَهُ فَمَا الَّذِي تَظُنُّهُ فِي هَذَا النَّبَاتِ فَأَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا وَجَلَسَ عِنْدَهُ أَيَّامًا ثُمَّ قَالَ الَّذِي تَحَرَّرَ لِي أَنَّهُ مَجْهُولٌ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ اهـ.

فَنَتَجَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ لَنَا إلَى الْعِلْمِ بِحَقِيقَتِهِ إلَّا مُجَرَّدُ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ مِنْ مُتَعَاطِيهِ بِمَا يَجِدُونَهُ مِنْهُ وَلَمْ يَتِمَّ لِمَا عَلِمْت مِمَّا أَشَرْت إلَيْهِ مِنْ الْخِلَافِ فِيهِ وَالِاخْتِلَافِ إذْ الْقَائِلُونَ بِالْحِلِّ نَاقِلُونَ عَنْ عَدَدٍ مُتَوَاتِرٍ أَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ بِوَجْهٍ وَالْقَائِلُونَ بِالْحُرْمَةِ نَاقِلُونَ عَنْ عَدَدِ التَّوَاتُرِ أَنَّ فِيهِ آفَاتٍ وَمَفَاسِدَ مِنْهَا أَنَّهُ مُخَدِّرٌ وَمُغَيِّبٌ، أَوْ مُسْكِرٌ مُطْرِبٌ فَأَحَدُ الْخَبَرَيْنِ كَاذِبٌ قَطْعًا مَعَ رِعَايَةِ الْعُمُومِ سَلْبًا وَإِثْبَاتًا وَلَمَّا رَأَيْت هَذَا التَّعَارُضَ أَرَدْت أَنْ أَكْشِفَ بَعْضَ أَمْرِهِ بِالسُّؤَالِ مِمَّنْ تَعَاطَاهُ فَقَالَ لِي إمَامُ الشَّافِعِيَّةِ بِمَقَامِ خَلِيلِ اللَّهِ إبْرَاهِيمَ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَهُ لَمَّا رَحَلَ إلَى زَبِيدٍ وَتَعِزْ مِنْ نَحْوِ ثَلَاثِينَ سَنَةً مِنْ الْآنَ فَلَمْ يَجِدْ لَهُ ضَرَرًا يُوَجَّهُ لَا فِي رَطْبِهِ وَلَا فِي يَابِسِهِ وَكَذَلِكَ قَالَ بَعْضُ مُدَرِّسِي الشَّافِعِيَّةِ بِمَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ أَنَّهُ أَرَادَ فِي بِدَايَةِ أَمْرِهِ التَّجَرُّدَ فَأَرَادَ تَفْتِيرَ الشَّهْوَةِ فَوُصِفَ لَهُ يَابِسُهُ فَأَكَلَ مِنْهُ فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ تَخْدِيرًا وَلَا غَيْبَةَ ذِهْنٍ بِوَجْهٍ وَقَالَ بَعْضُ مُدَرِّسِي الْحَنَفِيَّةِ زُرْت بَعْضَ مُتَصَوِّفَةِ الْيَمَنِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْمَكِّيِّ فَأَعْطَانِي قَلِيلًا مِنْهُ وَقَالَ لِي تَبَرَّكْ بِأَكْلِ هَذَا فَإِنَّهُ مُبَارَكٌ فَأَكَلْت مِنْهُ فَوَجَدْت فِيهِ تَخْدِيرًا فَذَكَرْتُ لَهُ كَلَامَ ذَيْنِكَ فَقَالَ إنَّ عِنْدِي مَعْرِفَةً بِالطِّبِّ وَبَدَنِي مُعْتَدِلُ الْمِزَاجِ وَالطَّبْعِ فَاَلَّذِي أُدْرِكُهُ بِوَاسِطَةِ ذَلِكَ لَا يُدْرِكُهُ غَيْرِي وَقَدْ أَدْرَكْت مِنْهُ التَّخْدِيرَ وَدَوَرَانَ الرَّأْسِ وَلَا أَعُودُ لِأَكْلِهِ أَبَدًا وَكَذَا قَالَ بَعْضُ الْأَشْرَافِ إنَّ فِيهِ غَيْبَةً عَنْ الْحَسَنِ وَأَنَّهُ اسْتَعْمَلَهُ فَغَابَ مُدَّةً طَوِيلَةً لَا يَدْرِي السَّمَاءَ مِنْ الْأَرْضِ وَلَا الطُّولَ مِنْ الْعَرْضِ وَبَعْضُهُمْ قَالَ إنْ انْضَمَّ لِأَكْلِهِ دُسُومَةٌ لَمْ يُؤَثِّرْ وَإِلَّا أَثَّرَ وَبَعْضُهُمْ قَالَ لَا يُؤَثِّرُ مُطْلَقًا فَعِنْدَ وُقُوعِ هَذَا الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَافِي حَارَ الْفِكْرُ فِيهِ وَأَحْجَمَ الْعَقْلُ عَنْ أَنْ يَجْزِمَ فِيهِ بِتَحْلِيلٍ، أَوْ تَحْرِيمٍ

وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ الِاخْتِلَافِ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ تَأْثِيرُهُ وَعَدَمُ تَأْثِيرِهِ بِاخْتِلَافِ الطِّبَاعِ بِغَلَبَةِ أَحَدِ الْأَخْلَاطِ وَالطَّبَائِعِ الْأَرْبَعِ عَلَيْهَا وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الْمُتَنَاقِضَةِ مَعَ عَدَالَةِ قَائِلِهَا وَبَعْدَ كَذِبِهِمْ إلَّا بِأَنْ يُفْرَضَ أَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي بَعْضِ الْأَبَدَانِ دُونَ بَعْضٍ وَإِذَا فُرِضَ صِدْقُ هَذَا الظَّنِّ وَأَنَّ هَذَا النَّبَاتَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ غَلَبَةِ بَعْضِ الْأَخْلَاطِ فَوَرَاءَ ذَلِكَ نَظَرٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ مَا يَخْتَلِفُ كَذَلِكَ هَلْ النَّظَرُ فِيهِ إلَى عَوَارِضِهِ اللَّاحِقَةِ لَهُ فَيَحْرُمُ عَلَى مَنْ ضَرَّهُ دُونَ مَنْ لَمْ يَضُرَّهُ، أَوْ إلَى ذَاتِهِ فَإِنْ كَانَ مُضِرًّا لِذَاتِهِ حَرُمَ مُطْلَقًا وَإِلَّا لَمْ يَحْرُمْ مُطْلَقًا وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي يُصَرِّحُ بِهِ كَلَامُ أَئِمَّتِنَا فِي غَيْرِ هَذَا مِنْ النَّبَاتَاتِ الضَّارَّةِ فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ هُنَا وَفَارِقُ الْخَمْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُلِّ مُسْكِرٍ مَائِعٍ بِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>