للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إسْكَارُهُ مَعَ نَجَاسَتِهِ فَإِذَا فُرِضَ انْتِفَاءُ إسْكَارِهِ حَرُمَ لِنَجَاسَتِهِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا لِهَذَا النَّبَاتِ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ وَلَا أَغْلَبِيٌّ وَمِنْ الضَّرَرِ، أَوْ عَدَمِهِ نُدِيرُ الْأَمْرَ عَلَيْهِ وَنَحْكُمُ بِقِيمَتِهِ وَإِنَّمَا الَّذِي تَحَصَّلْنَا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الِاخْتِلَافِ وَمَا قَرَّرْنَاهُ سَابِقًا وَهُوَ أَنَّهُ يَتَعَذَّر الْجَمْعُ بَيْنَ تِلْكَ الْأَخْبَارِ إذَا قُلْنَا بِاخْتِلَافِهِ بِاخْتِلَافِ الطِّبَاعِ وَلَيْسَ هَذَا أَمْرًا قَطْعِيًّا كَمَا عَلِمْت لِتَطَرُّقِ التُّهَمِ وَالْكَذِبِ إلَى بَعْضِ الْمُخْبِرِينَ عَنْهُ بِضَرَرٍ، أَوْ عَدَمِهِ وَتَوَاتُرُ الْخَبَرِ فِي جَانِبٍ مُعَارِضٍ بِتَوَاتُرِهِ فِي جَانِبٍ آخَرَ بِخِلَافِهِ فَسَقَطَ النَّظَرُ فِيهِ إلَى الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ وَوَجَبَ النَّظَرُ فِيهِ إلَى أَنَّهُ تَعَارَضَ فِيهِ أَخْبَارٌ ظَنِّيَّةُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَقَدْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِمَا قَدَّمْتُهُ فَتَعَيَّنَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ وَأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الطِّبَاعِ إذْ الْقَاعِدَةُ الْأُصُولِيَّةُ أَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَ الْجَمْعُ لَا يُعْدَلُ إلَى التَّعَارُضِ وَعَلَى فَرْضِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِذَلِكَ لِمَا مَرَّ أَنَّ بَعْضَ الْمُخْبِرِينَ سَلَبَ الضَّرَرَ عَنْ هَذَا النَّبَاتِ سَلْبًا كُلِّيًّا وَبَعْضُهُمْ أَثْبَتَهُ لَهُ إثْبَاتًا كُلِّيًّا فَيَجِبُ الْإِمْعَانُ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ الْمُخْبِرِينَ بِدَلَائِلَ وَأَمَارَاتٍ بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِ الْمُسْتَدِلِّ وَتَضَلُّعِهِ مِنْ الْعُلُومِ السَّمْعِيَّةِ وَالنَّظَرِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ حَادِثَةٍ لَمْ يَسْبِقْ فِيهَا كَلَامُ الْمُتَقَدِّمِينَ كَهَذَا النَّبَاتِ فَإِنِّي لَا أَعْرِفُ فِيهِ كَلَامًا بَعْدَ مَزِيدِ التَّفْتِيشِ وَالتَّنْقِيرِ فِي كُتُبِ الشَّرْعِ وَالطِّبِّ وَاللُّغَةِ لِغَيْرِ أَهْلِ عَصْرِنَا وَمَشَايِخِهِمْ وَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ كَمَا سَتَعْلَمُهُ

وَالظَّاهِرُ أَنَّ سَبَبَ اخْتِلَافِهِمْ وَمَا أَشَرْت إلَيْهِ مِنْ اخْتِلَافِ الْمُخْبِرِينَ وَإِلَّا فَفِي الْحَقِيقَةِ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّ مَنْ نَظَرَ إلَى أَنَّهُ مُضِرٌّ بِالْبَدَنِ، أَوْ الْعَقْلِ حَرَّمَهُ وَمَنْ نَظَرَ إلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُضِرٍّ لَمْ يُحَرِّمْهُ فَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ إنْ تَحَقَّقَ فِيهِ ضَرَرٌ حَرُمَ وَإِلَّا لَمْ يَحْرُمْ فَلَيْسُوا مُخْتَلِفِينَ فِي الْحُكْمِ بَلْ فِي سَبَبِهِ فَرَجَعَ اخْتِلَافُهُمْ إلَى الْوَاقِعِ وَحَيْثُ رَجَعَ الِاخْتِلَافُ إلَى ذَلِكَ خَفَّ الْأَمْرُ وَهَانَ الْخَطْبُ وَعُذِرَ مَنْ قَالَ بِالْحُرْمَةِ لِتَوَهُّمِهِ الضَّرَرَ وَمَنْ قَالَ بِالْحِلِّ لِتَوَهُّمِهِ عَدَمَهُ وَمِمَّا يَزِيدُ فِي الْعُذْرِ مَا قَدَّمْتُهُ مِنْ تَعَسُّرِ التَّجْرِبَةِ فَلَمْ يَبْقَ تَعْوِيلٌ إلَّا عَلَى مُجَرَّدِ أَخْبَارِ مُتَعَاطِيهِ وَقَدْ عَلِمْتُ تَبَايُنَهَا وَتَنَاقُضَهَا وَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ تَنَاقُضُ آرَاءِ الْعُلَمَاءِ وَتَبَايُنِهَا فِيهِ لَكِنْ مَعَ مُلَاحَظَةِ الْقَوَاعِدِ الْأُصُولِيَّةِ لَا تَعَارُضَ وَلَا تَبَايُنَ كَمَا سَأُقَرِّرُهُ لَك لَكِنْ بَعْدَ ذِكْرِ حَاصِلِ الْآرَاءِ الْمُتَبَايِنَةِ فِيهِ وَحِجَجِهَا وَمَا فِيهَا ثُمَّ ذِكْرِ مَا أَخْتَارُهُ فِيهِ وَأَمِيلُ إلَيْهِ فَأَقُولُ عَنْهُ وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ بِذِكْرِ مَقَالَاتِهِمْ وَحُجَجِهَا وَمَا فِيهَا ثُمَّ ذِكْرِ مَا نَخْتَارُهُ وَنَمِيلُ إلَيْهِ زِيَادَةً فِي الْإِيضَاحِ وَمُبَالَغَةً فِي النُّصْحِ.

فَأَقُولُ احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْحِلِّ بِأُمُورٍ مِنْهَا أَنَّ الْإِمَامَ الصَّفِيَّ الْمُزَجَّدَ كَانَ يَقُولُ بِتَحْرِيمِهِ حُكِيَ عَنْهُ ثُمَّ أَنَّهُ اخْتَبَرَهُ بِأَكْلِهِ شَيْئًا مِنْهُ فَلَمَّا لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ أَفْتَى بِحِلِّهِ فَقَالَ وَأَمَّا الْقَاتُّ وَالْكُفْتَةُ فَمَا أَظُنُّهُ يُغَيِّرُ الْعَقْلَ وَلَا يَصْدُرُ عَنْ الطَّاعَةِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِهِ نَشَاطٌ وَرَوْحَنَةٌ وَطِيبُ خَاطِرٍ لَا يَنْشَأُ عَنْهُ ضَرَرٌ بَلْ رُبَّمَا كَانَ مَعُونَةً عَلَى زِيَادَةِ الْعَمَلِ فَيَتَّجِهُ أَنَّ حُكْمَهُ وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ طَاعَةً فَتَنَاوُلُهُ طَاعَةٌ، أَوْ مُبَاحًا فَتَنَاوُلُهُ مُبَاحٌ فَإِنَّ لِلْوَسَائِلِ حُكْمَ الْمَقَاصِدِ اهـ.

وَكَذَلِكَ أَفْتَى بِحِلِّهِ الْفَقِيهُ الشِّهَابُ الْبَكْرِيُّ الطَّنْبَدَاوِيُّ وَكَانَ يَأْكُلُهُ وَيُثْنِي عَلَيْهِ فَقَالَ وَأَمَّا الْقَاتُّ وَالْكُفْتَةُ فَلَيْسَا بِمُغَيِّبَيْنِ لِلْعَقْلِ وَلَا مُخَدِّرَيْنِ لِلْبَدَنِ وَإِنَّمَا فِيهِمَا نَشْأَةٌ وَتَقْوِيَةٌ وَطِيبُ وَقْتٍ فَإِنْ قَصَدَ بِهِمَا التَّقَوِّي عَلَى الطَّاعَةِ فَهُمَا مُسْتَحَبَّانِ لِأَنَّ لِلْوَسَائِلِ حُكْمُ الْمَقَاصِدِ كَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَئِمَّتُنَا وَكَذَلِكَ أَفْتَى بِحِلِّهِ الْإِمَامُ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ كَبَّنَ الطَّبَرِيُّ وَلَهُ فِي مَدْحِهِ أَبْيَاتٌ

وَمِنْهَا أَنَّ الْمُشَاهَدَةَ مِنْ أَحْوَالِ آكِلِيهِ أَنَّهُ يُحْدِثُ لَهُمْ رَوْحَنَةً وَطِيبَ وَقْتٍ وَتَقْوِيَةً عَلَى الْأَعْمَالِ وَلَا يُحْدِثُ لَهُمْ إسْكَارًا وَلَا تَخْبِيلًا وَلَا تَخْدِيرًا.

وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْحُرْمَةِ بِأُمُورٍ مِنْهَا قَوْلُ الْفَقِيهِ أَبِي بَكْرِ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْمُقْرِي الْحَرَازِيِّ الشَّافِعِيِّ فِي مُؤَلَّفِهِ فِي تَحْرِيمِ الْقَاتِ كُنْت آكُلُهَا فِي سِنِّ الشَّبَابِ ثُمَّ اعْتَقَدْتُهَا مِنْ الْمُتَشَابِهَاتِ وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ» .

ثُمَّ إنِّي رَأَيْت مِنْ أَكْلِهَا الضَّرَرَ فِي بَدَنِي وَدِينِي فَتَرَكْت أَكْلَهَا فَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّ الْمُضَارَّاتِ مِنْ أَشْهَرِ الْمُحَرَّمَاتِ فَمِنْ ضَرَرِهَا أَنَّ آكِلَهَا يَرْتَاحُ وَيَطْرَبُ وَتَطِيبُ نَفْسُهُ وَيَذْهَبُ حُزْنُهُ ثُمَّ يَعْتَرِيهِ قَدْرَ سَاعَتَيْنِ مِنْ أَكْلِهِ هُمُومٌ مُتَرَاكِمَةٌ وَغُمُومٌ مُتَزَاحِمَةٌ وَسُوءُ أَخْلَاقٍ وَكُنْت فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إذَا قَرَأَ عَلَيَّ أَحَدٌ يَشُقُّ

<<  <  ج: ص:  >  >>