للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

آكِلِيهَا فِي تَأْثِيرِهَا فَلْيُحَرِّمُوا الْقَاتَّ وَلَا نَظَرَ لِلِاخْتِلَافِ فِي تَأْثِيرِهَا لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْجَوْزَةَ نَظَرَ فِيهَا وَحَرَّمَهَا مَنْ يُعْتَدُّ بِنَظَرِهِمْ وَبِتَجْرِبَتِهِمْ حَتَّى عَلِمُوا أَنَّ التَّخْدِيرَ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لَهَا فَلِهَذَا حَكَمُوا بِأَنَّهَا مُخَدِّرَةٌ لِذَاتِهَا وَأَعْرَضُوا عَمَّنْ لَمْ يَرَ مِنْهَا تَخْدِيرًا وَلَوْ تَمَّ ذَلِكَ فِي الْقَاتِ لَأَلْحَقْنَاهُ بِهَا لَكِنَّهُ لَمْ يَتِمَّ كَمَا قَدَّمْتُهُ.

ثُمَّ هَذَا الْجَوَابُ مُشْتَمِلٌ عَلَى بَيَانِ حُكْمِ الْحَشِيشَةِ وَعَلَى تَنْقِيحِ الْخِلَافِ فِي أَنَّهَا مُسْكِرَةٌ، أَوْ مُخَدِّرَةٌ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِإِعَادَتِهِ مَعَ كَلَامِ النَّاسِ فِيهَا عَلَى حِدَّتِهِ لِتَتِمَّ فَائِدَتُهُ وَتَعُمَّ عَائِدَتُهُ فَنَقُولُ ذَكَرَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ الْعِلَلِ أَنَّ الشَّيْطَانَ حِين خَرَجَ مِنْ السَّفِينَةِ سَرَقَ مَعَهُ شَجَرَةَ الْكَرْمِ فَزَرَعَهَا ثُمَّ ذَبَحَ خِنْزِيرًا فَسَقَاهَا بِدَمِهِ ثُمَّ ذَبَحَ كَلْبًا فَسَقَاهَا بِدَمِهِ ثُمَّ ذَبَحَ قِرْدًا فَسَقَاهَا بِدَمِهِ فَحَصَلَتْ لَهَا النَّجَاسَةُ مِنْ دَمِ الْخِنْزِيرِ وَحَصَلَ لِشَارِيهَا الْعَرْبَدَةُ مِنْ دَمِ الْقِرْدِ وَالْحَمِيَّةُ وَالْغَضَبُ مِنْ دَمِ الْكَلْبِ فَمِنْ ثَمَّ تَرَى السَّكْرَانَ تَأْخُذُهُ الْحَمِيَّةُ وَيَغْضَبُ بِخِلَافِ السَّكْرَانِ بِالْبَنْجِ وَالْحَشِيشِ وَالشَّيْكَرَانِ وَجَوْزَةِ الطِّيبِ وَالْأَفْيُونِ.

فَإِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُسْكِرَةٌ وَلَا يَحْصُلُ لِلْبَدَنِ مَعَهَا نَشَاطٌ وَلَا عَرْبَدَةٌ بَلْ يُعْتَبَرُ بِهِ تَخْدِيرٌ وَفُتُورٌ فَكُلُّ مُخَدِّرٍ مُسْكِرٌ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ فَالْخَمْرُ مُسْكِرَةٌ وَلَيْسَتْ مُخَدِّرَةً وَالْبَنْجُ وَنَحْوُهُ مُسْكِرٌ وَمُخَدِّرٌ وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى أَنَّ الْحَشِيشَةَ وَنَحْوَهَا مُسْكِرٌ النَّوَوِيُّ فِي شَرْح الْمُهَذَّبِ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي كِتَابِهِ التَّذْكِرَةِ فِي الْخِلَافِ وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَبَيَّنْت فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ قَالَ بِأَنَّهَا مُخَدِّرَةٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِسْكَارِ فِي كَلَامِهِمْ مُجَرَّدُ التَّغْطِيَةِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ قَيْدِهِ الْمُتَبَادَرِ مِنْهُ وَهُوَ التَّغْطِيَةُ مَعَ نَشَاطٍ وَعَرْبَدَةٍ وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ أَيْضًا قَوْلُ ابْنِ الْبَيْطَارِ أَنَّ الْحَشِيشَ يُسْكِرُ جِدًّا وَهُوَ حُجَّةٌ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ كَانَ عَلَّامَةَ زَمَنِهِ فِي مَعْرِفَةِ الْأَعْشَابِ وَالنَّبَاتِ يَرْجِعُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ مُحَقِّقُو الْأَطِبَّاءِ.

وَقَدْ امْتَحَنَهُ بَعْضُ مُعَاصِرِيهِ عِنْدَ السُّلْطَانِ فَجَاءَ إلَى السُّلْطَانِ بِنَبَاتٍ وَقَالَ لَهُ إذَا طَلَعَ إلَيْك فَأَعْطِهِ هَذَا يَشُمُّهُ مِنْ هَذَا الْمَحَلِّ فَتَبَيَّنَ لَك مَعْرِفَتُهُ، أَوْ جَهْلُهُ فَلَمَّا طَلَعَ إلَيْهِ أَعَطَاهُ لَهُ وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَشُمَّهُ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي عُيِّنَ لَهُ فَشَمَّهُ مِنْهُ فَرَعَفَ لِوَقْتِهِ رُعَافًا شَدِيدًا فَقَلَبَهُ وَشَمَّهُ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ فَسَكَنَ رُعَافُهُ لِوَقْتِهِ ثُمَّ قَالَ لِلسُّلْطَانِ مُرْ مَنْ أَعْطَاهُ لَك يَشُمَّهُ مِنْ الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ فَإِنْ عَرَفَ أَنَّ فِيهِ الْفَائِدَةَ الْأُخْرَى فَهُوَ طَبِيبٌ وَإِلَّا فَهُوَ مُتَشَبِّعٌ بِمَا لَمْ يُعْطَ فَلَمَّا طَلَعَ لِلسُّلْطَانِ أَمَرَهُ بِشَمِّهِ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَرَعَفَ فَقَالَ لَهُ اقْطَعْهُ فَحَارَ وَكَادَتْ نَفْسُهُ تُفْتَلَتُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْلِبَهُ وَيَشُمَّهُ فَفَعَلَ فَانْقَطَعَ رُعَافُهُ فَمِنْ ثَمَّ زَادَتْ مَكَانَةُ ابْنِ الْبَيْطَارِ عِنْدَ السُّلْطَانِ وَانْقَطَعَتْ أَعْدَاؤُهُ وَحُسَّادُهُ.

وَغَلِطَ صَاحِبُ الْمِفْتَاحِ فِي شَرْحِهِ لِلْحَاوِي الصَّغِيرِ فِي أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ: أَنَّ الْحَشِيشَةَ نَجِسَةٌ إنْ ثَبُتَ أَنَّهَا مُسْكِرَةٌ مَعَ أَنَّهَا مُسْكِرَةٌ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى مَا مَرَّ فَإِنَّ السُّكْرَ مَعْنَاهُ تَغْطِيَةُ الْعَقْلِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} [الحجر: ١٥] قَالَ ابْنُ الْعِمَادِ وَكَأَنَّهُ تَوَهَّمَ أَنَّ الْمُخَدِّرَ لَا يَكُونُ مُسْكِرًا وَهُوَ خَطَأٌ وَهَذَا الْخَطَأُ حَصَلَ أَيْضًا لِلْقَرَافِيِّ فِي الْقَوَاعِدِ الثَّانِي أَنَّهُ ادَّعَى أَنَّهَا نَجِسَةٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا مُسْكِرَةٌ وَهَذَا شَيْءٌ لَا تَحِلُّ حِكَايَتُهُ عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَقَدْ حَكَى الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي شَرْحِهِ لِفُرُوعِ ابْنِ الْحَاجِبِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ نَجِسَةً.

وَكَذَلِكَ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ الْقَرَافِيُّ فِي الْقَوَاعِدِ فِي نَظِيرِ الْحَشِيشِ فَقَالَ تَنْفَرِدُ الْمُسْكِرَاتُ عَنْ الْمُرَقِّدَاتِ وَالْمُفْسِدَاتِ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ الْحَدِّ وَالتَّنْحِيسِ وَتَحْرِيمِ الْقَلِيلِ فَالْمُرَقِّدَاتُ وَالْمُفْسِدَاتُ لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا نَجَاسَةَ فَمَنْ صَلَّى بِالْبَنْجِ وَالْأَفْيُونِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ إجْمَاعًا وَيَجُوزُ تَنَاوُلُ الْيَسِيرِ مِنْهَا فَمَنْ تَنَاوَلَ حَبَّةً مِنْ الْأَفْيُونِ، أَوْ الْبَنْجِ جَازَ مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَدْرًا يَصِلُ إلَى التَّأْثِيرِ فِي الْعَقْلِ وَالْحَوَاسِّ أَمَّا دُونَ ذَلِكَ فَجَائِزٌ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ وَقَعَ بِهَا بَيْنَ الْمُسْكِرَاتِ وَالْآخَرَيْنِ اهـ وَفِي كِتَابِ السِّيَاسَةِ لِابْنِ تَيْمِيَّةَ أَنَّ الْحَدَّ وَاجِبٌ فِي الْحَشِيشَةِ قَالَ لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ جَامِدَةً وَلَيْسَتْ شَرَابًا تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي نَجَاسَتِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ فَقِيلَ نَجِسَةٌ وَهُوَ صَحِيحٌ اهـ.

وَمَا ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ مِنْ حِلِّ تَنَاوُلِ يَسِيرِهَا نَقَلَهُ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ عَنْ الْمُتَوَلَّيْ فِي جَوَازِ تَنَاوُلِ الْيَسِيرِ مِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>