للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْحَشِيشِ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ التَّنْبِيهِ وَغَيْرِهِ وَكُلُّ طَاهِرٍ لَا ضَرَرَ فِي أَكْلِهِ يَجُوزُ أَكْلُهُ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الشَّيْخَيْنِ عَنْ الْإِمَامِ وَإِقْرَارُهُ يُجَوِّزُ أَكْلَ السُّمِّ لِمَنْ لَا يَضُرُّهُ وَيَجُوزُ بَلْ يَجِبُ أَكْلُهَا عِنْدَ الْإِضْرَارِ إذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهَا وَفَارَقَتْ الْخَمْرُ بِأَنَّ شُرْبَهَا يَزِيدُ فِي الْعَطَشِ وَأَكْلُ الْحَشِيشَةِ لَا يَزِيدُ فِي الْجُوعِ وَإِنَّمَا غَايَةُ مَا فِيهَا إنَّهَا تُغَطِّي الْعَقْلَ وَتَغْطِيَتُهُ جَائِزَةٌ لِدَوَاءٍ، أَوْ نَحْوِ قَطْعِ عُضْوٍ مُتَآكِلٍ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ وَيَحْرُمُ إطْعَامُهَا لِلْحَيَوَانِ لِأَجْلِ إسْكَارِهِ وَبَيْعُهَا جَائِزٌ قَطْعًا لِأَنَّهَا قَدْ تَنْفَعُ لِبَعْضِ الْأَمْرَاضِ كَمَا يَأْتِي وَمَحَلُّهُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا يَتَعَيَّنُ لِلتَّدَاوِي بِهِ وَفِيمَا يَجُوزُ تَنَاوُلُهُ مِنْ الْيَسِيرِ الَّذِي لَا يَضُرُّ وَمَا عَدَا هَذَيْنِ فِي صِحَّةِ بَيْعِهِ نَظَرٌ وَقَضِيَّةُ قَوْلِ ابْنِ النَّقِيبِ لَا ضَمَانَ عَلَى مُتْلِفِهَا كَالْخَمْرِ عَدَمُ صِحَّةِ بَيْعِ ذَلِكَ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ.

وَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ بْنُ الْقُطْبِ الْقَسْطَلَّانِيُّ عَنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ أَهْلِ الشَّامِ فِيهَا إنَّهَا حَارَّةٌ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ يَابِسَةٌ فِي الْأُولَى تُصَدِّعُ الرَّأْسِ وَتُظْلِمُ الْبَصَرَ وَتُعَقِّدُ الْبَطْنَ وَتُجَفِّفُ الْمَنِيَّ وَذَكَرَ فِيهَا مَنَافِعَ مِنْ نَحْوِ طَرْدِ الرِّيَاحِ وَتَحْلِيلِ النَّفْخِ وَتَنْقِيَةِ الْأَبْرِئَةِ مِنْ الرَّأْسِ عِنْدَ غَسْلِهِ بِهَا وَالْأَبْرِئَةُ مَرَضٌ يَحْدُثُ بِسَطْحِ الرَّأْسِ وَهُوَ قُشُورٌ بِيضٌ وَالْعِلَّةُ فِي فِعْلِهَا لِذَلِكَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْحَرَارَةِ وَالْيُبْسِ فَإِذًا تَرْجِعُ إلَى كَوْنِهَا دَوَاءً مِنْ جُمْلَةِ الْأَدْوِيَةِ وَتُسْتَعْمَلُ حَيْثُ تُسْتَعْمَلُ الْأَدْوِيَةِ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهَا مِنْ الْأَمْرَاضِ بِمِقْدَارِ مَا يَدْفَعُ الضَّرَرَ قَالَ وَلَا يَسْتَعْمِلُهَا الْأَصِحَّاءُ بِحَيْثُ يَنْشَأُ عَنْ أَكْلِهَا السُّبَاتُ وَالْخَدَرُ وَالْإِسَاءَةُ وَالْهَدَرُ فَإِنَّ مَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ يَتَعَيَّنُ اجْتِنَابُهُ لِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَضَارِّ الَّتِي هِيَ مَبَادِئُ مَدَاعِي الْهَلَاكِ وَرُبَّمَا نَشَأَ مِنْ تَجْفِيفِ الْمَنِيِّ وَصُدَاعِ الرَّأْسِ وَغَيْرِهِمَا مَفَاسِدُ وَمَضَارُّ تَفْتَقِرُ إلَى عِلَاجٍ قَالَ.

وَقَدْ ذَكَرَهَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَالِقِيُّ الْعَشَّابُ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْبَيْطَارِ فِي كِتَابِهِ الْجَامِعُ لِقَوِيِّ الْأَدْوِيَةِ وَالْأَغْذِيَةِ فَقَالَ.

وَمِنْ الْقِنَّبِ الْهِنْدِيِّ نَوْعٌ ثَالِثٌ يُقَالُ لَهُ الْقِنَّبُ وَلَمْ أَرَهُ بِغَيْرِ مِصْرَ وَيُزْرَعُ فِي الْبَسَاتِينِ وَيُسَمَّى بِالْحَشِيشَةِ أَيْضًا وَهُوَ مُسْكِرٌ جِدًّا إذَا تَنَاوَلَ مِنْهُ الْإِنْسَانُ يَسِيرًا قَدْرَ دِرْهَمٍ أَوْ دِرْهَمَيْنِ حَتَّى أَنَّ مَنْ أَكَلَ مِنْهُ أَخْرَجَهُ إلَى حَدِّ الرُّعُونَةِ وَقَدْ اسْتَعْمَلَهُ قَوْمٌ فَاخْتَطَفَتْ عُقُولَهُمْ وَأَدَّى بِهِمْ الْحَالُ إلَى الْجُنُونِ وَرُبَّمَا قَتَلَتْ وَمِمَّا يَنْفَعُ فِي مُدَاوَاتِهَا الْقَيْءَ بِسَمْنٍ وَمَاءٍ سُخِّنَ حَتَّى تُنَقَّى الْمَعِدَةُ وَشَرَابُ الْحُمَاضِ لَهُ غَايَةٌ فِي النَّفْعِ قَالَ وَهِيَ كَمَا زَعَمَ مَنْ تَعَاطَاهَا مُدَّةً ثُمَّ انْقَشَعَ عَنْ عَيْنِهِ سَحَابُ الْعَمَى عَنْ الْهُدَى خَبِيثَةُ الطَّعْمِ كَرِيهَةُ الرَّائِحَةِ وَلِأَجْلِ هَذَا يَتَخَيَّلُ بَعْضُ مَنْ يَتَعَاطَاهَا عَلَى تَطْيِيبِهَا بِمَا يُسَوِّغُ تَنَاوُلَهَا مِنْ السِّمْسِمِ الْمَقْشُورِ أَوْ السُّكَّرِ وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَإِنَّ الطَّبِيعَةَ تَكْرَهُهُ لَا مَحَالَةَ كَمَا تَكْرَهُ الْأَدْوِيَةَ.

وَإِنْ كَانَتْ تُؤَمِّلُ فِي تَنَاوُلِهَا حُصُولُ الْأَشْفِيَةِ وَأَيْضًا فَالْمَأْكُولُ مُنْحَصِرٌ فِي الْغِذَاءِ وَالدَّوَاءِ وَلَيْسَتْ بِغِذَاءٍ لِأَنَّهَا لَا تُلَائِمُ الْجَسَدِ فَهِيَ دَوَاءٌ وَالدَّوَاءُ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ حَيْثُ تَدْعُو الضَّرُورَةُ إلَيْهِ فَلَا يَسْتَعْمِلُهُ الصَّحِيحُ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُلَائِمَةٍ لِلطِّبَاعِ بَلْ مُنَافِرَةٌ لِمَا عَلَيْهِ الْمِزَاجُ مِنْ الْأَوْضَاعِ قَالَ وَقَدْ نُقِلَ لَنَا أَنَّ الْبَهَائِمَ لَا تَتَنَاوَلُهَا فَمَا قَدْرُ مَأْكُولٍ تَنْفِرُ الْبَهَائِمُ عَنْ تَنَاوُلِهِ وَهِيَ مِمَّا يُحِيلُ الْأَبْدَانَ وَيُحَلِّلُ قُوَاهَا وَيَحْرِقُ دِمَاءَهَا وَيُجَفِّفُ رُطُوبَتَهَا وَيُصَفِّرُ الْأَلْوَانَ وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا إمَامُ وَقْتِهِ فِي الطِّبّ أَنَّهَا تُوَلِّدُ أَفْكَارًا كَثِيرَةً وَإِنَّهَا تُجَفِّفُ الْمَنِيَّ وَتَجْفِيفُهُ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ قِلَّةِ الرُّطُوبَةِ فِي الْأَعْضَاءِ الرَّئِيسَةِ.

وَمِمَّا أَنْشَدَ فِيهَا

قُلْ لِمَنْ يَأْكُلُ الْحَشِيشَةَ جَهْلًا ... يَا خَسِيسًا قَدْ عِشْت شَرَّ مَعِيشَةٍ

دِيَةُ الْعَقْلِ بِدُرَّةٍ فَلِمَاذَا ... يَا سَفِيهًا قَدْ بِعْتهَا بِحَشِيشَةٍ

قَالَ وَقَدْ بَلَغَنَا مِنْ جَمْعٍ يَفُوقُ حَدَّ الْحَصْرِ إنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ عَانَاهَا مَاتَ بِهَا فَجْأَةً وَآخَرِينَ اخْتَلَّتْ عُقُولُهُمْ وَابْتُلُوا بِأَمْرَاضٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ الدَّقِّ وَالسُّلِّ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَإِنَّهَا تَسْتُرُ الْعَقْلَ وَتَغْمُرُهُ وَمِمَّا أُنْشِدَ فِيهَا أَيْضًا

يَا مَنْ غَدَا أَكْلُ الْحَشِيشِ شِعَارُهُ ... وَعَدَا فَلَاحُ عَوَارِهِ وَخِمَارُهُ

أَعْرَضْت عَنْ سُنَنِ الْهُدَى بِزَخَارِفَ ... لَمَّا اعْتَرَضْت لِمَا أُشِيعَ ضِرَارُهُ

الْعَقْلُ يَنْهَى أَنْ يَمِيلَ إلَى الْهَوَى ... وَالشَّرْعُ يَأْمُرُ أَنْ تُعَدِّدَ دَارَهْ

<<  <  ج: ص:  >  >>