إلَيْهِمْ أَنْ لَا يَلُدُّوهُ فَقَالُوا إنَّمَا أَشَارَ إلَى الْمَنْعِ مِنْ اللَّدِّ لِكَرَاهِيَةِ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ أَيْ إنَّمَا نَهَيْتَنَا عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ دَوَاءٌ وَنَفْسُ الْمَرِيضِ تَكْرَهُهُ فَقَالَ لَا يَبْقَى أَحَدٌ فِي الْبَيْتِ إلَّا لَدَّ وَأَنَا أَنْظُرُ إلَّا الْعَبَّاسَ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَاللَّدَدُ هُوَ مَا يُجْعَلُ فِي جَانِبِ الْفَمِ مِنْ الدَّوَاءِ فَأَمَّا مَا يُصَبُّ فِي الْحَلْقِ فَيُقَالُ لَهُ الْوَجُورُ فَفِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ - إنَّهُمْ أَذَابُوا قِسْطًا بِزَيْتٍ وَلَدُّوهُ بِهِ قِيلَ وَإِنَّمَا كَرِهَ اللَّدَدَ مَعَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَدَاوَى لِأَنَّهُ تَحَقَّقَ أَنَّهُ يَمُوتُ فِي مَرَضِهِ وَمَنْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ كُرِهَ لَهُ التَّدَاوِي وَنَظَرَ فِيهِ بِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُخَيَّرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ وَعِنْدِي فِي هَذَا نَظَرٌ لِأَنَّهُ وَقَعَ تَخْيِيرُهُ قَبْلَ هَذَا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَهُوَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ إنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ» وَهُوَ يَقُولُ فَدَيْنَاك بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ هُوَ الْمُخَيَّرُ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمُنَا بِهِ الْحَدِيثُ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ وَهَذِهِ الْخُطْبَةُ كَانَتْ فِي ابْتِدَاءِ مَرَضِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَإِنَّهُ خَرَجَ كَمَا رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ «وَهُوَ مَعْصُوبُ الرَّأْسِ بِخِرْقَةٍ حَتَّى أَهْوَى إلَى الْمِنْبَرِ فَاسْتَوَى عَلَيْهِ فَقَالَ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَأَنْظُرُ إلَى الْحَوْضِ مِنْ مَقَامِي هَذَا ثُمَّ قَالَ إنَّ عَبْدًا عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا إلَخْ ثُمَّ هَبَطَ عَنْهُ فَمَا رُئِيَ عَلَيْهِ حَتَّى السَّاعَةِ» وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ بِسَنَدٍ وَصَلَهُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «أَنْعَى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفْسَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ» وَكَأَنَّ ذَلِكَ الْمُعْتَرَضَ أَرَادَ التَّخْيِيرَ الْأَخِيرَ فَقَدْ صَحَّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهَا - كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «إنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ ثُمَّ يَحْيَا أَوْ يُخَيَّرُ فَلَمَّا اشْتَكَى وَحَضَرَهُ الْقَبْضُ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخْذِي غُشِيَ عَلَيْهِ فَلَمَّا أَفَاقَ شَخَصَ بَصَرَهُ نَحْوَ سَقْفِ الْبَيْتِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى فَقُلْت إذًا لَا يَخْتَارُنَا» فَعَرَفْت أَنَّهُ حَدِيثُهُ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا وَفَهْمُهَا هَذَا نَظِيرُ فَهْمِ أَبِيهَا السَّابِقِ حِينَ بَكَى - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فَعَلِمَ أَنَّهُ خُيِّرَ مَرَّتَيْنِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَصِحُّ التَّنْظِيرُ السَّابِقُ.
فَالْأَوْلَى رَدُّ تِلْكَ الْمَقَالَةِ بِأَنَّ سَبَبَ إنْكَارِ التَّدَاوِي أَنَّهُ كَانَ غَيْرَ مُلَائِمٍ لِدَائِهِ؛ لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ بِهِ ذَاتَ الْجَنْبِ فَدَاوَوْهُ بِمَا يُلَائِمُهَا وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ ذَلِكَ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ فِي سِيَاقِ الْخَبَرِ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ سَعْدٍ قَالَ «كَانَتْ تَأْخُذُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخَاصِرَةُ فَاشْتَدَّتْ بِهِ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ فَلَدَدْنَاهُ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ عَلَيَّ ذَاتَ الْجَنْبِ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَجْعَلَ لَهَا عَلَيَّ سُلْطَانًا وَاَللَّهِ لَا يَبْقَى أَحَدٌ فِي الْبَيْتِ إلَّا لَدَّ وَلَدَدْنَا وَلَدَّتْ مَيْمُونَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَهِيَ صَائِمَةٌ»
وَرَوَى أَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ فِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاتَ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ» وَجَمَعَ بَيْنَ هَذَا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ بِأَنَّ ذَاتَ الْجَنْبِ تُطْلَقُ عَلَى شَيْئَيْنِ وَرَمٍ حَارٍّ يَعْرِضُ فِي الْغِشَاءِ الْمُسْتَبْطِنِ وَرِيحٍ يَحْتَقِنُ بَيْنَ الْأَضْلَاعِ فَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَنْفِيُّ هُنَا وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحَاكِمِ فِي الْمُسْتَدْرَكِ ذَاتُ الْجَنْبِ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالثَّانِي هُوَ الَّذِي أُثْبِتَ هُنَا وَلَيْسَ فِيهِ مَحْذُورٌ كَالْأَوَّلِ وَمِمَّا تَقَرَّرَ عُلِمَ مَعْنَى اللَّدَدِ وَإِنَّ الَّذِينَ لَدُّوهُ هُمْ أَهْلُ بَيْتِهِ وَلَمْ نَرَ تَعْيِينَ عَدَدِهِمْ وَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَإِنَّهُ كَانَ فِي الْأَدْوِيَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ بِمَ اسْتَحَقَّ الْحَاضِرُونَ اللَّدَّ فَيُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي وَقَوْلُ صَاحِبِ الْعُبَابِ فَاقْتَضَى جَوَازَ التَّعْزِيرِ بِمِثْلِ مَا تَعَدَّى بِهِ هُوَ مَا سَبَقَهُ إلَيْهِ غَيْرُهُ لَكِنَّ عِبَارَتَهُ وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الْقِصَاصِ فِيمَا يُصَابُ بِهِ الْإِنْسَانُ اهـ.
لَكِنَّهُ مَرْدُودٌ بِأَنَّ الْجَمِيعَ لَمْ يَتَعَاطَوْا لَدَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا الَّذِي تَعَاطَاهُ بَعْضُهُمْ فَكَيْفَ يُقْتَصُّ مِنْ الْجَمِيعِ؟ وَلِأَجْلِ هَذَا الِاعْتِرَاضِ جُعِلَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّعْزِيرِ دُونَ الْقِصَاصِ لِتَرْكِهِمْ امْتِثَالَ نَهْيِهِ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ وَلَكِنْ رُدَّ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَأَوِّلِينَ كَمَا أَشَارُوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ كَرَاهِيَةُ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ وَالْمُتَأَوَّلِ الْمَعْذُورِ فِي تَأْوِيلِهِ لَا يُعَزَّرُ فَالْوَجْهُ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ تَأْدِيبَهُمْ لِئَلَّا يَعُودُوا فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ اقْتِصَاصٌ وَلَا انْتِقَامٌ وَبِهِ يَنْدَفِعُ قَوْلُ الْعُبَابِ فَاقْتَضَى إلَخْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute