لَمَّا عَلِمْت أَنَّهُمْ لَمْ يَتَعَمَّدُوا وَإِنَّمَا خَشِيَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَبْنُوا عَلَى ظَنِّهِمْ ذَلِكَ الْعَوْدَ إلَى مِثْلِ فِعْلِهِمْ الْأَوَّلِ وَظَهَرَ لَهُ أَنَّهُمْ لَا يَنْتَهُونَ بِنَهْيِهِ لِتَأْوِيلِهِمْ الْمَذْكُورِ فَلَمْ يَرُدَّ أَفْعَالَهُمْ إلَّا أَنْ يَفْعَلَ بِهِمْ كَفِعْلِهِمْ وَهُوَ لَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ إيذَاءٍ لِأَنَّ شُرْبَ الْقِسْطِ بِالزَّيْتِ نَافِعٌ لِلْأَصِحَّاءِ دُونَ الْمَرْضَى بِمَرَضٍ لَا يَكُونُ ذَلِكَ دَوَاءً لَهُ فَهُمْ أَذُوهُ لَكِنَّهُمْ مُتَأَوِّلُونَ وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُؤْذِهِمْ وَإِنَّمَا قَصَدَ بِذَلِكَ عَدَمَ عَوْدِهِمْ وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ أَرَادَ أَنْ لَا يَأْتُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهِمْ حَقُّهُ فَيَقَعُوا فِي خَطِيئَةٍ عَظِيمَةٍ فَقَدْ عَلِمْت رَدَّهُ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَرْتَكِبُوا خَطِيئَةً فَضْلًا عَنْ كَوْنِهَا عَظِيمَةً لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا الْإِصْلَاحَ وَهُمْ مَعْذُورُونَ فِي ذَلِكَ الظَّنِّ وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَنْتَهُوا بِنَهْيِهِ لِأَنَّهُمْ أَوَّلُوهُ بِأَنَّهُ نَاشِئٌ عَنْ كَرَاهِيَةِ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ ثُمَّ رَأَيْت بَعْضَهُمْ رَدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ الْعَفْوُ وَبِأَنَّهُ كَانَ لَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ اهـ.
وَفِيهِ تَسْلِيمٌ لِمَا قَالَهُ فَالْوَجْهُ مَا قُلْتُهُ فِي رَدِّهِ مِنْ مَنْعِ كَوْنِ ذَلِكَ خَطِيئَةً فَضْلًا عَنْ كَوْنِهَا عَظِيمَةً، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ - عَمَّا إذَا قَالَ شَخْصٌ لِآخَرَ لَعَنَ اللَّهُ وَالِدَيْك فَهَلْ يُعَزَّرُ الْقَائِلُ مَثَلًا أَوْ لَا لِأَنَّهُ لَمْ يَنْطِقْ بِاللَّعْنِ؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِعُلُومِهِ الْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ الظَّاهِرِ كَمَا أَفْتَى بِهِ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يُعَزَّرُ لِأَنَّ ذَلِكَ اشْتَهَرَ فِي أَلْفَاظِ الْعَوَامّ بِمَعْنَى اللَّعْنِ وَلَا يَفْهَمُونَ وَلَا يَقْصِدُونَ مِنْهُ إلَّا ذَلِكَ وَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا فِي الْقَذْفِ وَالْعِتْقِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِتَأْنِيثِ الْمُذَكَّرِ وَعَكْسِهِ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظُ يَفْهَمُهُ كُلُّ أَحَدٍ وَلَوْ مَعَ تَأْنِيثِ الْمُذَكَّرِ وَعَكْسِهِ فَكَذَا هُنَا الْمُرَادُ مِنْ هَذَا اللَّفْظُ يَفْهَمُهُ كُلُّ أَحَدٍ فَلْيَجِبْ التَّعْزِيرُ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ لَائِقًا وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَعَدِّي اللَّائِقَ وَمِنْ ثَمَّ حَكَى ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ أَنَّهُ لَمَّا وُلِّيَ الْقَضَاءَ الْأَكْبَرَ بِمِصْرَ مَنَعَ نُوَّابَهُ مِنْ الضَّرْبِ بِالدِّرَّةِ قَالَ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِتَعْيِيرِ الشَّخْصِ وَتَعْيِيرِ ذُرِّيَّتِهِ بِذَلِكَ عَلَى الدَّوَامِ وَظَاهِرٌ أَنَّ الْكَلَامَ فِيمَنْ لَا يَلِيقُ بِهِ الضَّرْبُ بِهَا لَا فِي نَحْوِ السَّفَلَةِ الَّذِينَ لَا يُبَالُونَ بِهَا وَلَا بِمَا هُوَ أَقْبَحُ مِنْهَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) رَحِمَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِمَا لَفْظُهُ كَثِيرًا مَا يَتَخَاصَمُ اثْنَانِ فَيُعَيِّرُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِالْفَقْرِ، أَوْ رَعْيِ الْغَنَمِ مَثَلًا فَيَقُولُ الْآخَرُ الْأَنْبِيَاءُ كَانُوا فُقَرَاءَ وَيَرْعَوْنَ الْغَنَمَ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ مَأْلُوفٌ فَمَا حُكْمُ ذَلِكَ؟
(فَأَجَابَ) عَفَا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ هَذَا مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُفْطَمَ عَنْهُ النَّاسُ غَايَةَ الْفَطْمِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى مَحْذُورَاتٍ لَا يُتَدَارَكُ خَرْقُهَا وَلَا يَرْتَقِعُ فَتْقُهَا وَكَيْفَ وَكَثِيرًا مَا يُوهِمُ ذَلِكَ الْعَامَّةَ إلْحَاقَ نَقْصٍ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَعْضِ صِفَاتِهِ الَّتِي هِيَ مِنْ كَمَالِهِ الْأَعْظَمِ.
وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَقِيصَةً فِي ذَاتِهِ كَالْأُمِّيَّةِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ عُرْفِ الْعَوَامّ الطَّارِئِ كَالْفَقْرِ وَرَعْيِ الْغَنَمِ فَتَعَيَّنَ الْإِمْسَاكُ عَنْ ذَلِكَ وَتَأَكَّدَ عَلَى الْوُلَاةِ وَالْعُلَمَاءِ مَنْعُ النَّاسِ مِنْ الْإِلْمَامِ بِشَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْمَسَالِكِ فَإِنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ أَعْظَمِ الْمَهَالِكِ وَقَدْ بَالَغَ الْحَافِظُ الْجَلَالُ السُّيُوطِيّ شَكَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَعْيَهُ.
فَأَفْتَى بِوُجُوبِ التَّعْزِيرِ الْبَلِيغِ عَلَى مَنْ عَيَّرَ وَلَدَهُ بِرَعْيِ الْمِعْزَى فَقَالَ مُسْتَدِلًّا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِنَقْصٍ الْأَنْبِيَاءُ رَعَوْا الْمِعْزَى؛ لِأَنَّ مَقَامَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَجَلُّ مِنْ أَنْ يُضْرَبَ مَثَلًا لِآحَادِ النَّاسِ وَلَمْ يُبَالِ فِي هَذَا الْإِفْتَاءِ بِاعْتِرَاضِ عُلَمَاءِ عَصْرِهِ عَلَيْهِ بِأَنَّ مُقْتَضَى الْمَذْهَبِ أَيْ بَلْ صَرِيحُهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ أَكَابِرِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ حَيْثُ لَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ مَحْذُورًا مِنْ تَنْقِيصٍ، أَوْ نَحْوِهِ وَإِنَّمَا قَصَدَ مُجَرَّدَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ لَيْسَتْ بِنَقْصٍ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَتَحَلَّى إلَّا بِمَا هُوَ الْغَايَةُ فِي الْكَمَالِ لَا إثْم عَلَيْهِ وَلَا تَعْزِيرَ وَأَنَّ الْإِثْمَ وَالتَّعْزِيرَ فِي ذَلِكَ إنَّمَا يُوَافِقُ قَوَاعِدَ الْإِمَامِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَأُصُولَهُ الَّتِي بَسَطَ الْكَلَامَ فِيهَا صَاحِبُ الشِّفَاءِ حَيْثُ قَالَ أَمَّا مُلَخَّصُهُ الْوَجْهُ الْخَامِسُ أَنْ لَا يَقْصِدَ نَقْصًا وَلَا يَذْكُرُ عَيْبًا وَلَا سَبًّا وَلَكِنَّهُ يَنْزِعُ بِذِكْرِ بَعْضِ أَوْصَافَهُ أَوْ يَسْتَشْهِدُ بِبَعْضِ أَحْوَالِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْجَائِزَةِ عَلَيْهِ فِي الدِّينِ عَلَى طَرِيقِ ضَرْبِ الْمَثَلِ وَالْحُجَّةِ لِنَفْسِهِ، أَوْ لِغَيْرِهِ أَوْ عَلَى التَّشَبُّهِ بِهِ، أَوْ عِنْدَ هَضْمَةٍ نَالَتْهُ، أَوْ غَضَاضَةٍ لَحِقَتْهُ لَيْسَ عَلَى طَرِيقِ التَّأَسِّي وَطَرِيقِ التَّحْقِيرِ بَلْ عَلَى قَصْدِ التَّرْفِيعِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، أَوْ سَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَعَدَمِ التَّوْقِيرِ لِنَبِيِّهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute