فَالْقَضَاءُ بِالْعِلْمِ أَوْلَى وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِهِ وَعَنْ الرَّبِيعِ كَانَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا يَبُوحُ بِهِ لِقُضَاةِ السُّوءِ وَعَلَى هَذَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ بِالتَّوَاتُرِ مِنْ بَابٍ أَوْلَى إلَى آخِرِ كَلَامِ ابْنِ الْحُسَيْنِ الَّذِي يُحِيطُ عِلْمُكُمْ بِهِ.
فَهَلْ يَا شَيْخَ الْإِسْلَامِ بَلْ إمَامُ أَئِمَّةِ الْأَنَامِ الْمُحَكَّمُ كَالْحَاكِمِ وَإِنْ قُلْتُمْ لَا فَمَا الْفَرْقُ وَإِنْ قُلْتُمْ نَعَمْ فَمَا هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يَحْكُمُ بِهِ الْحَاكِمُ أَوْ الْمُحَكَّمُ بَيِّنُوا لَنَا فَإِنَّا رَأَيْنَا كَلَامًا لِلْأَئِمَّةِ لَمْ نَفْهَمْ الرَّاجِحَ مِنْهُ.
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِعُلُومِهِ بِأَنَّ الَّذِي أَفْهَمُهُ كَلَامَ الْأَذْرَعِيِّ فِي تَوَسُّطِهِ أَنَّ الْمُحَكَّمَ لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ وَعِبَارَتُهُ هَلْ لِلْمُحَكَّمِ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ بِنَاءً عَلَى الْمُرَجَّحِ أَمْ لَا لِانْحِطَاطِ رُتْبَتِهِ لَمْ أَرَ فِيهِ شَيْئًا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَجْرِيَ فِيهِ خِلَافٌ مُرَتَّبٌ أَوْلَى بِالْمَنْعِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقْطَعَ بِالْمَنْعِ انْتَهَتْ وَظَاهِرُهَا بَلْ صَرِيحُهَا مَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ وَمِنْ ثَمَّ جَزَمَ بِذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَلَمْ يَعُزْهُ لِلْأَذْرَعِيِّ كَشَيْخِنَا فِي شَرْحِ الرَّوْضِ وَغَيْرِهِ كَصَاحِبِ الْعُبَابِ.
وَعَلَيْهِ فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُحَكَّمِ وَالْحَاكِمِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْأَذْرَعِيُّ بِقَوْلِهِ لِانْحِطَاطِ رُتْبَتِهِ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُسْتَنِدَ إلَى الْقَضَاءِ أَقْوَى مِنْ الْحُكْمِ الْمُسْتَنِدِ إلَى التَّحْكِيمِ فَالْقَاضِي أَعْلَى رُتْبَةً مِنْ الْمُحَكَّمِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ إلْحَاقِهِ بِهِ فِي جَوَازِ الْحُكْمِ الْمُسْتَنِدِ إلَى السَّبَبِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ الْبَيِّنَةِ أَوْ الْإِقْرَارِ إلْحَاقُهُ بِهِ فِي جَوَازِ الْحُكْمِ الْمُسْتَنَدِ إلَى السَّبَبِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ وَهُوَ عِلْمُهُ وَإِنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ الْمُجَوِّزَةُ لِلْقَاضِي الْحُكْمَ بِعِلْمِهِ مِنْ أَنَّهُ إذَا جَازَ اسْتِنَادُ حُكْمِهِ إلَى الْبَيِّنَةِ الَّتِي لَا تُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ فَلَأَنْ يَجُوزَ اسْتِنَادُ حُكْمِهِ إلَى الْعِلْمِ الَّذِي يُفِيدُ الْيَقِينَ مِنْ بَابِ أَوْلَى جَارِيَةٌ بِعَيْنِهَا فِي الْمُحَكَّمِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ فِيهَا نَظَرٌ إذْ الْيَقِينُ فِي الْقَاضِي لَيْسَ بِشَرْطٍ وَإِنَّمَا الشَّرْطُ غَلَبَةُ الظَّنِّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخَانِ حَيْثُ قَالَا الْمُرَادُ بِالْعِلْمِ الظَّنُّ الْمُؤَيَّدُ بِقَرِينَةِ تَمْثِيلِهِمْ لِلْقَضَاءِ بِهِ بِمَا إذَا ادَّعَى عَلَيْهِ مَالًا وَقَدْ رَآهُ الْقَاضِي أَقْرَضَهُ ذَلِكَ أَوْ سَمِعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَقَرَّ بِذَلِكَ إذْ رُؤْيَةُ الْإِقْرَارِ وَسَمَاعُ الْإِقْرَارِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِثُبُوتِ الْمَحْكُومِ بِهِ وَقْتَ الْقَضَاءِ.
فَقَوْلُ الْإِمَامِ إنَّمَا يَقْضِي بِالْعِلْمِ فِيمَا يَسْتَيْقِنُهُ اخْتِيَارٌ لَهُ مُخَالِفٌ لِلْمَذْهَبِ وَبِمَا تَقَرَّرَ عُلِمَ أَنَّ لِلْقَاضِي الْحُكْمَ بِعِلْمِهِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ بِالْأَوْلَى لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ وَبِذَلِكَ صَرَّحَ الْإِمَامُ وَاعْتَمَدَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَكَذَا ابْنُ أَبِي الدَّمِ قَالَ بَعْدَ نَقْلِهِ عَنْ النِّهَايَةِ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَوَجْهُ عُلُوِّ مُرَتَّبَةِ الْقَاضِي عَلَى الْحُكْمِ أَنَّ الْقَاضِيَ لَهُ الْحَبْسُ وَالتَّرْسِيمُ وَاسْتِيفَاءُ مَا يَحْكُمُ بِهِ مِنْ الْعُقُوبَاتِ وَحَدُّ الْقَذْفِ وَالْمُحَكَّمُ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْرِمُ أُبَّهَةَ الْوُلَاةِ وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُهَيِّئَ حَبْسًا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُضَاهِيًا لِلْقَاضِي وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ مُضَاهَاتِهِ وَأَيْضًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ فِي حُدُودِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَتَعَازِيرِهِ وَأَلْحَقَ بِهَا الْمَاوَرْدِيُّ الْوِلَايَاتِ عَلَى الْأَيْتَامِ وَلَا يَجُوزُ تَحْكِيمُهُ إلَّا إنْ تَأَهَّلَ لِلْقَضَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِجَمِيعِ الْوَقَائِعِ لَا لَتِلْكَ الْوَاقِعَةِ فَقَطْ فَإِنْ لَمْ يَتَأَهَّلْ لِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ تَحْكِيمُهُ مَعَ وُجُودِ الْقَاضِي.
فَإِنْ قُلْت لَنَا صُورَةً يُنَفَّذُ فِيهَا قَضَاءُ الْمُحَكَّمِ دُونَ الْقَاضِي فَيَكُونُ أَقْوَى مِنْهُ عَلَى الْعَكْسِ مِمَّا مَرَّ وَهِيَ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ لِنَحْوِ وَلَدِهِ وَعَلَى عَدُوِّهِ عَلَى مَا رَجَّحَهُ الزَّرْكَشِيُّ لِرِضَاءِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ قُلْت مَا رَجَّحَهُ فِيهِ نَظَرٌ وَمِنْ ثَمَّ جَزَمَ غَيْرُهُ بِامْتِنَاعِ حُكْمِهِ فِي الصُّورَتَيْنِ قَالَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ الرَّوْضِ وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى الْقَاضِي وَعَلَى تَسْلِيمِ مَا ذَكَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ فَهُوَ لَا يَقْتَضِي عُلُوَّ مَرْتَبَةِ الْمُحَكَّمِ عَلَى الْقَاضِي لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا جَازَ لَهُ لِأَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ بِسَبِيلٍ مِنْ عَزَلَ الْمُحَكَّمِ قَبْلَ تَمَامِ الْحُكْمِ فَرَضَاهُ بِحُكْمِهِ إلَى فَرَاغِهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ وَثِقَ مِنْهُ بِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ مِنْهُ تَقْتَضِي رَدَّ حُكْمِهِ بِخِلَافِهِ فِي الْحَاكِمِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ الْخَصْمَ حُكْمُهُ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ فَاشْتَرَطَ أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ تُهْمَةٌ إذْ لَوْ وُجِدَتْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ سَبِيلٌ إلَى دَفْعِهَا فَاشْتُرِطَ انْتِفَاؤُهَا فِي الْقَاضِي دُونَ الْمُحَكَّمِ فَتَفَارُقُهُمَا فِي ذَلِكَ لَا يَرْجِعُ لِقُوَّةِ مَرْتَبَتِهِمَا وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إلَى حَالِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ.
كَمَا تَقَرَّرَ فَإِنْ قُلْت يَجُوزُ التَّحَاكُمُ إلَى اثْنَيْنِ فَلَا يَنْفُذُ حُكْمُ أَحَدِهِمَا حَتَّى يَجْتَمِعَا وَلَا يَجُوزُ تَوْلِيَةُ قَاضِيَيْنِ بِشَرْطِ اجْتِمَاعِهِمَا عَلَى الْحُكْمِ وَهَذَا يَقْتَضِي تَمَيُّزَ الْمُحَكَّمِ قُلْت لَا يَقْتَضِيهِ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا امْتَنَعَ فِي الْقَاضِيَيْنِ دُونَ الْمُحَكَّمَيْنِ لِنَحْوِ مَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute