لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْبَيِّنَاتِ فِي شَيْءٍ أَلْبَتَّةَ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يُسْتَأْنَسُ بِهِ فِي تَقْوِيَةِ سَنَدٍ أَوْ ضَعْفِهِ أَوْ عَدَالَةٍ أَوْ جَرْحٍ أَوْ نَحْوِهَا وَكُلُّ هَذِهِ لِلْقَرَائِنِ فِيهَا مَدْخَلٌ لِأَنَّ مَدَارَهَا وَمَبْنَاهَا لَيْسَ إلَّا عَلَى الْقَرَائِنِ كَمَا لَا يَخْفَى ذَلِكَ عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى إلْمَامٍ بِمَعْلُومِ الْحَدِيثِ وَاصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ التَّارِيخِ وَالْمُسْتَدِلُّونَ بِهِ وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَلَا مَدْخَلَ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ فِي قَوَاعِدِهِمْ الْمُقَرَّرَةِ فِي أَحْكَامِ الْقُضَاةِ وَالشُّهُودِ وَنَحْوِهِمَا وَقَوْلُ الرَّوْضَةِ وَالْإِحْيَاءِ السَّابِقُ مِنْ الْوَاضِحِ أَنَّهُ مَفْرُوضٌ فِي تَوَارِيخَ لَيْسَ فِيهَا إلَّا مُجَرَّدُ ذِكْرِ حَوَادِثَ وَوَقَائِعَ لَا يَرْتَبِطُ بِهَا نَفْعٌ فِي الدِّينِ وَلَا فِي الدُّنْيَا.
وَأَمَّا تَوَارِيخُ الْمُحَدِّثِينَ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ نَحْوِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَوَفَيَاتِ الرُّوَاةِ وَرَحَلَاتِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهِيَ مِنْ أَجَلِّ الْكُتُبِ النَّافِعَةِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُحَدِّثُونَ وَالنَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْهُمْ بَلْ مِنْ أَجَلِّهِمْ كَمَا شَهِدَ بِذَلِكَ تَقْرِيبُهُ وَغَيْرُهُ فَإِنْ قُلْت قَدْ اُسْتُدِلَّ بِالتَّارِيخِ فِي مِثْلِ قَضِيَّتِنَا فَقَدْ حَكَى الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ أَنَّ بَعْضَ يَهُودِ خَيْبَرَ أَظْهَرَ صَحِيفَةً فِيهَا إسْقَاطُ الْجِزْيَةِ عَنْهُمْ وَفِيهَا شَهَادَةُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ فَنَظَرَ الْأَئِمَّةُ فِي حَالِ أُولَئِكَ الشُّهُودِ فَوَجَدُوا بَعْضَهُمْ قَدْ مَاتَ قَبْلَ فَتْحِ خَيْبَرَ كَسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَبَعْضُهُمْ مَا أَسْلَمَ إلَّا بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ فَأُبْطِلَتْ تِلْكَ الصَّحِيفَةُ قُلْت شَتَّانَ مَا بَيْنَ هَذِهِ وَقَضِيَّتِنَا لِأَنَّ هَذِهِ مِنْ بَابِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَسْقَطَ الْجِزْيَةَ عَنْهُمْ وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّهُ يُعْمَلُ فِي بَابِ الرِّوَايَةِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْقَرَائِنِ وَقَضِيَّتُنَا مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ فَلَا جَامِعَ بَيْنَهُمَا عَلَى أَنَّا لَا نُسَلِّمَ أَنَّ بُطْلَانَ الصَّحِيفَةِ لِمُجَرَّدِ ذَلِكَ.
وَإِنَّمَا حُكِيَ هَذَا لِأَنَّهُ قَرِينَةٌ فَقَطْ وَأَمَّا أَصْلُ بُطْلَانِهَا فَإِنَّمَا هُوَ لِأُصُولٍ أُخْرَى مِنْهَا مُخَالَفَتُهَا لِلْقَطْعِيِّ وَهُوَ الْإِجْمَاعُ عَلَى عُمُومِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ وَمِنْ ثَمَّ كَانَتْ صَحِيفَتُهُمْ بَاطِلَةً وَإِنْ فُرِضَ أَنَّ تِلْكَ الْقَرِينَةَ لَمْ تُوجَدْ فَبَانَ أَنَّهَا مُقَوِّيَةٌ فَقَطْ وَمِمَّا يُبْطِلُهَا أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنْ لَا إجْمَاعَ أَنَّ إسْقَاطَهَا عَنْ هَؤُلَاءِ بِخُصُوصِهِمْ تَخْصِيصٌ لِلْقُرْآنِ وَهُوَ لَا يَكُونُ إلَّا بِقَاطِعٍ عِنْدَ جَمَاعَةٍ وَعَلَى مُقَابِلِ الْأَصَحِّ أَنَّهُ يَكُونُ بِالسُّنَّةِ وَلَوْ ظَنِّيَّةً يُشْتَرَطُ فِي تِلْكَ السُّنَّةِ أَنْ يَرْوِيَهَا الْعَدْلُ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَنَدٍ مُتَّصِلٍ عُرِفَتْ رِجَالُهُ وَعَدَالَتُهُمْ وَعَدَمُ عِلَّةٍ قَادِحَةٍ فِيهِمْ أَوْ فِي مُرُوءَتِهِمْ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ وَهَذِهِ الصَّحِيفَةُ لَمْ يُوجَدْ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ فَكَيْفَ يَتَوَهَّمُ مَنْ لَهُ أَدْنَى مُسْكَةٍ أَنَّ بُطْلَانَهَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تِلْكَ الْقَرِينَةِ حَتَّى تُجْعَلَ الْقَرِينَةُ هِيَ الْمُبْطِلَةَ لَهَا ثُمَّ يَقِيسُ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ بُطْلَانَ الْحُكْمِ فِي قَضِيَّتِنَا لَا يَتَوَهَّمُ ذَلِكَ إلَّا غَبِيٌّ جَاهِلٌ عَلَى أَنَّهُ صَحَّتْ نُصُوصٌ تُبْطِلُهَا أَيْضًا فَقَدْ صَحَّ مِنْ طُرُقٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصَّ عَلَى إجْلَائِهِمْ مِنْ خَيْبَرَ بَلْ مِنْ الْحِجَازِ وَعَمِلَ بِهَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَأَجْلَاهُمْ وَأَخَذَ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ.
وَوَافَقَهُ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - عَلَى ذَلِكَ وَتَدَبَّرْهُ لِيَظْهَرَ لَك أَنَّ مَا حُكِيَ عَنْ ذَلِكَ الْقَاضِي إنْ صَحَّ عَنْهُ دَلَّ عَلَى فَرْطِ جَهْلِهِ وَقِلَّةِ دِينِهِ وَاقْتَضَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى عُلَمَاءِ بَلَدِهِ السَّعْيُ فِي عَزْلِهِ مَا أَمْكَنَ وَإِلَّا لَزِمَهُمْ الْإِعْلَامُ بِحَالِهِ حَتَّى لَا يَغْتَرَّ بِهِ الْجَاهِلُونَ وَتَوْلِيَةُ مِثْلِ هَذَا غَيْرُ عَجِيبٍ فَقَدْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ فِي قُضَاةِ زَمَنِهِ إنَّهُمْ كَقَرِيبِي عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ فَالِامْتِحَانُ بِالْجَهَلَةِ قَدِيمٌ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
(وَسُئِلَ) عَمَّا إذَا أَمَرَ السُّلْطَانُ بِأَمْرٍ مُوَافِقٍ لِمَذْهَبٍ مُعْتَبَرٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ بِذَلِكَ الْمَذْهَبِ فَضْلًا عَنْ تَقْلِيدِهِ فَهَلْ يَتَعَيَّنُ تَنْفِيذُ أَمْرِهِ بِذَلِكَ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ نَعَمْ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْبُلْقِينِيُّ وَعِبَارَتُهُ إذَا أَمَرَ السُّلْطَانُ بِأَمْرٍ مُوَافِقٍ لِمَذْهَبٍ مُعْتَبَرٍ مِنْ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْمُعْتَبَرِينَ فَإِنَّا نُنَفِّذُهُ وَلَا يَجُوزُ لَنَا نَقْضُهُ وَلَا نَقُولُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَعْلَمَ بِالْخِلَافِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْحُكَّامِ لِأَنَّ الْخَوْضَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى فِتَنٍ عَظِيمَةٍ يَنْبَغِي سَدُّهَا انْتَهَتْ.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَمَّنْ أَجَابَ بِجَوَابٍ مُعْتَرِضًا عَلَى جَوَابِ غَيْرِهِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ تَخْطِئَتُهُ وَالتَّشْنِيعُ عَلَيْهِ بِأَلْفَاظٍ قَبِيحَةٍ كَمَا يَفْعَلُهُ الْبَعْضُ سَوَاءٌ أَظَهَرَ الْخَطَأَ بِظُهُورِ النَّصِّ أَمْ كَانَ اعْتِرَاضُهُ بِحَسَبِ فَهْمِهِ أَمْ يَجُوزُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ وَمَا هُوَ وَفِي الرَّوْضَةِ كَلَامٌ لَا يَخْفَى عَلَى شَرِيفِ عِلْمِكُمْ حَقِّقُوهُ أَثَابَكُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِثَوَابِهِ الْجَزِيلِ؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ إنْ كَانَ الْمُجِيبُ الْأَوَّلُ لَيْسَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute