للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْوَاقِعَةَ أَيْ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْخَطِّ ضَعِيفَةٌ مُحْتَمِلَةٌ فَلَا يَجُوزُ اعْتِمَادُهَا فِي الشَّهَادَاتِ وَنَحْوِهَا مَعَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَلَى مِثْلِ هَذِهِ فَاشْهَدْ» فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ مِمَّنْ عَرَفَ ذَلِكَ مِنْ مُخْتَصَرَاتِ مَذْهَبِهِ الَّتِي بِأَيْدِي الْمُبْتَدَئِينَ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا كَيْفَ يَتَوَهَّمُ أَنَّ حُكْمًا صَحَّ لِاسْتِيفَاءِ شُرُوطِهِ يُنْقَضُ لِشَيْءٍ وُجِدَ مُخَالِفًا لَهُ لَا يُقَاوِمُهُ وَلَا يُعَارِضُهُ تَاللَّهِ لَا يَتَوَهَّمُ ذَلِكَ إلَّا غَبِيٌّ غَلَبَ عَلَيْهِ هَوَاهُ وَضَعُفَ عَقْلُهُ وَتَقْوَاهُ عَلَى أَنَّا لَوْ تَنَزَّلْنَا.

وَقُلْنَا إنَّ تِلْكَ التَّوَارِيخَ يُعْمَلُ بِهَا فِي ذَلِكَ لَمْ يُعْمَلْ بِهَا فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ جَزْمًا لِأَنَّهَا لَا تُنَافِي مَا حَكَمَ بِهِ الْقَاضِي لِأَنَّ غَايَةَ مَا بَيْنَ تَارِيخِ وَفَاةِ الْوَاقِفِ وَوَفَاةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مِائَةُ سَنَةٍ وَنَحْوُ سَنَةٍ وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّ وِلَادَةَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ تَأَخَّرَتْ عَنْ وَفَاةِ الْوَاقِفِ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ عَاشَ مِائَةَ سَنَةٍ وَسَنَتَيْنِ وَهَذَا كَثِيرٌ بَلْ قَدْ رَأَيْنَا مَنْ جَاوَزَ الْمِائَةَ وَالْعِشْرِينَ وَمِنْهُمْ جَدِّي أَبُو أَبِي وَشَيْخُنَا وَلِيُّ اللَّهِ ذُو الْكَرَامَاتِ الْبَاهِرَةِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْحَمَائِلِ وَشَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا سَقَى اللَّهُ تَعَالَى عَهْدَهُ جَاوَزَ الْمِائَةَ بَلْ فِي الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - أَجْمَعِينَ جَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ عَاشُوا مِائَةً وَسِتِّينَ سَنَةً بَلْ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - جَاوَزَ الْمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ سَنَةً اتِّفَاقًا عَلَى مَا نَقَلَهُ أَبُو الشَّيْخِ.

وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الزَّائِدِ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى قِيلَ إنَّهُ عَاشَ سِتَّمِائَةِ سَنَةٍ وَقَوْلُ الذَّهَبِيِّ لَمْ يُجَاوِزْ الثَّمَانِينَ فِيمَا ظَهَرَ لَهُ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ وَقَدْ رَأَيْنَا بِمَكَّةَ مِنْ مُنْذُ سِنِينَ رَجُلًا هِنْدِيًّا يَزْعُمُ أَنَّ سِنَّهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ سَنَةً وَأَنَّهُ مِنْ خَدَمَةِ رَتَنَ الْهِنْدِيِّ الْمُدَّعَى أَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّهُ حَمَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَمَلَهُ حَتَّى جَاوَزَ بِهِ سَبِيلًا قُرَيْبَ جُدَّةَ وَأَنَّهُ وَفَدَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بِمَكَّةَ وَمَرَّةً بِالْمَدِينَةِ وَانْتَصَرَ لَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ زَاعِمًا عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ تَابِعِيٌّ لِاجْتِمَاعِهِ بِهَذَا الصَّحَابِيِّ لَكِنْ بَالَغَ غَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ فِي تَكْذِيبِ رَتَنَ فِي دَعْوَاهُ تِلْكَ وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا اسْتِحَالَةَ وَلَا بُعْدَ فِي أَنَّ الشَّخْصَ يَعِيشُ مِائَةَ سَنَةٍ وَسَنَةٍ فَأَكْثَرَ لَمْ يَكُنْ مَا فِي تِلْكَ التَّوَارِيخِ مُنَافِيًا لِذَلِكَ الْحُكْمَ وَلَا مُعَارِضًا لَهُ بِوَجْهٍ فَتَوَهُّمُ الْقَاضِي أَنَّ مَا ذُكِرَ عَنْ تِلْكَ التَّوَارِيخِ يُنَافِي حُكْمَهُ وَيَقْتَضِي نَقْضَهُ ذُهُولٌ عَجِيبٌ وَتَغَفُّلٌ مُرِيبٌ هَذَا كُلُّهُ إذَا تَنَزَّلْنَا.

وَقُلْنَا بِمَا لَا يَقُولُ بِهِ شَافِعِيٌّ أَنَّ مَا فِي التَّوَارِيخِ يُعَارِضُ أَحْكَامَ الْقُضَاةِ الصَّحِيحَةِ بِالْبَيِّنَاتِ الْعَادِلَةِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ وَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ فَإِنْ قُلْت كَيْفَ يُطْلِقُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ أَنَّ عِلْمَ التَّارِيخِ لَا يَنْفَعُ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ مَعَ قَوْلِ الثَّوْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَنَاهِيَك بِهِ جَلَالَةً وَتَقَدُّمًا لَمَّا اسْتَعْمَلَ الرُّوَاةُ الْكَذِبَ اسْتَعْمَلْنَا لَهُمْ التَّارِيخَ وَقَوْلِ حَسَّانِ بْنِ يَزِيدَ لَمْ يُسْتَعَنْ عَلَى الْكَذَّابِينَ بِمِثْلِ التَّارِيخِ.

وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَقَدِمَهَا فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ أَمَرَ بِالتَّارِيخِ» وَقَوْلِ الْمُحَدِّثِينَ إنَّ التَّارِيخَ فَنٌّ عَظِيمُ الْوَقْعِ جَلِيلُ النَّفْعِ وَضَعْنَاهُ لِنَخْتَبِرَ بِهِ مَنْ جَهِلْنَا لَمَّا كَثُرَ الْكَذَّابُونَ حَتَّى ظَهَرَ بِهِ كَذِبُهُمْ وَبَطَلَ قَوْلُهُمْ الَّذِي يُرَوِّجُونَ بِهِ عَلَى مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالتَّارِيخِ كَمَا وَقَعَ لِجَمَاعَةٍ أَنَّهُمْ زَعَمُوا لِقَاءَ الْأَكَابِرِ وَأَخَذُوا عَنْهُمْ فَبُحِثَ عَنْ سِنِّ مَوْلِدِهِمْ وَوَفَاةِ أُولَئِكَ فَرُئِيَ بَيْنَهُمَا بَوْنٌ بَائِنٌ فَافْتُضِحُوا بِذَلِكَ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ وَقَوْلِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ وُلِعَ بَعْضُ مَنْ لَا يُعْبَأُ بِهِ بِكَلَامِ الرَّوْضَةِ وَالْإِحْيَاءِ فِي ذَمِّ مُطْلَقِ التَّارِيخِ فَأَخْطَأَ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ إذَا تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِلْوُقُوفِ عَلَى اتِّصَالِ الْخَبَرِ وَشِبْهِهِ قُلْت هَذَا كُلُّهُ فِي وَادٍ وَكَلَامُ الْفُقَهَاءِ فِي وَادٍ آخَرَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ اتَّفَقُوا بَلْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ بَابَ الرِّوَايَةِ أَوْسَعُ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ وَالْقَضَاءِ فَلَا يَلْزَمُ مَنْ اسْتِدْلَالِهِمْ بِمَا فِي التَّوَارِيخِ الْمُعْتَمَدَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْ مُؤَلِّفِيهَا الْأَئِمَّةِ الْحُفَّاظِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ مِنْ تَكْذِيبِ رَاوٍ فِي دَعْوَاهُ أَوْ جَرْحِهِ أَوْ تَعْدِيلِهِ أَوْ تَدْلِيسِهِ أَوْ انْقِطَاعِهِ أَوْ إرْسَالِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فُنُونِ الرِّوَايَةِ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِمَا فِيهَا عَلَى بُطْلَانِ حُكْمِ قَاضٍ بِبَيِّنَةٍ شَرْعِيَّةٍ عَادِلَةٍ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْمَحْكُومِ لَهُ وَنَفَذَ الْحُكْمُ لَهُ بِذَلِكَ ظَاهِرًا مُطْلَقًا وَبَاطِنًا كَذَلِكَ عِنْدَ جَمْعٍ مُجْتَهِدِينَ وَيُشْتَرَطُ أَنْ يُوَافِقَ بَاطِنُ الْأَمْرِ ظَاهِرَهُ عِنْدَنَا فَلَا يُرْفَعُ إلَّا بِمَا يُعَادِلُ ذَلِكَ كَبَيِّنَةٍ أُخْرَى مُسْتَوْفِيَةٍ لِشُرُوطِ الْبَيِّنَاتِ وَالتَّعَارُضِ شَهِدَتْ بِمَا يَقْتَضِي بُطْلَانَ ذَلِكَ الْحُكْمِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَرْفَعُهُ.

وَأَمَّا مُجَرَّدُ شَيْءٍ يُوجَدُ فِي تَارِيخٍ أَوْ تَوَارِيخَ فَذَلِكَ

<<  <  ج: ص:  >  >>