تَحْرِيرِهِ وَتَنْقِيحِهِ. وَوَقَعَ لِلْكَمَالِ الدَّمِيرِيِّ وَالسَّرَّاجِ بْنِ الْمُلَقِّنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ نَقَلُوا عَنْ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ وَأَقَرُّوهُ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: ٥٥] : أَجْمَعَ الْمُتَكَلِّمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ عَبَدَ وَدَعَا لِأَجْلِ الْخَوْفِ مِنْ الْعَذَابِ وَالطَّمَعِ فِي الثَّوَابِ لَا تَصِحُّ عِبَادَتُهُ، وَأَنَّهُ جَزَمَ فِي أَوَائِلِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ بِأَنَّهُ لَوْ قَالَ أُصَلِّي لِثَوَابِ اللَّهِ أَوْ الْهَرَبِ مِنْ عِقَابِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ اهـ. .
وَالْعَجَبُ فِي تَقْرِيرِ أُولَئِكَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِقَوْلِ الْأَصْحَابِ الَّذِي قَدَّمْته فِيمَنْ صَلَّى بِقَصْدِ حُصُولِ الدُّنْيَا لَهُ، أَوْ دَفْعِ الْغَرِيمِ عَنْهُ، وَكَأَنَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّ مُرَادَ الْفَخْرِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ مَا إذَا لَاحَظَ فِي عِبَادَتِهِ الْخَوْفَ، أَوْ الطَّمَعَ مَعَ ضَمِّهِ إلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ مَا عَبَدَهُ وَحِينَئِذٍ بُطْلَانُ الصَّلَاةِ بِذَلِكَ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي إسْلَامِ مَنْ جَرَّدَ قَصْدَهُ إلَى ذَلِكَ فَحَسْبُ، لَا أَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ اسْتِحْقَاقَ اللَّهِ لِلطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ لِذَاتِهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ جَزْمًا، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ هَذَا لَا يَقْصِدُهُ مُسْلِمٌ.
وَإِنَّمَا غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ النَّاسَ يَرْجُونَ بِعِبَادَتِهِمْ حُصُولَ الثَّوَابِ وَالنَّجَاةَ مِنْ الْعَذَابِ. وَهَذَا الرَّجَاءُ، أَوْ الْخَوْفُ لَا يُنَافِي حُصُولَ الثَّوَابِ، كَيْفَ؟ وَاَللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِخَلْقِهِ بِمَا تَفَضَّلَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ نَيْلِ الدَّرَجَاتِ وَإِسْبَاغِ الْهِبَاتِ فِي مُقَابَلَةِ امْتِثَالِهِمْ لِأَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِهِمْ لِنَوَاهِيهِ. وَذِكْرُ فَوَائِدِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَضُرُّ رِعَايَةُ تِلْكَ الْفَوَائِدِ وَرَجَاءُ حُصُولِهَا، وَقَدْ صَرَّحَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْإِحْيَاءِ فِي مَوَاضِعَ بِحُصُولِ الثَّوَابِ وَصِحَّةِ النِّيَّةِ وَإِنْ قَارَنَتْ الرَّجَاءَ وَالْخَوْفَ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْته؛ فَقَالَ - فِي أَوَاخِرِ مَبْحَثِ النِّيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ -: غَايَةُ مَنْ مَالَ قَلْبُهُ إلَى الدُّنْيَا وَغَلَبَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَذَكَّرَ النَّارَ وَيُحَذِّرَ نَفْسَهُ عِقَابَهَا، أَوْ نَعِيمَ الْجَنَّةِ وَيُرَغِّبَ نَفْسَهُ فِيهَا، فَرُبَّمَا تَنْبَعِثُ لَهُ دَاعِيَةٌ ضَعِيفَةٌ فَيَكُونُ ثَوَابُهُ بِقَدْرِ رَغْبَتِهِ وَنِيَّتِهِ، وَالطَّاعَةُ عَلَى نِيَّةِ إجْلَالِ اللَّهِ - لِاسْتِحْقَاقِهِ الطَّاعَةَ وَالْعُبُودِيَّةَ - لَا تَتَيَسَّرُ لِلرَّاغِبِ فِي الدُّنْيَا، وَهَذِهِ أَعَزُّ النِّيَّاتِ وَأَعْلَاهَا، وَيَعِزُّ مَنْ يَفْهَمُهَا فَضْلًا عَمَّنْ يَتَعَاطَاهَا. وَنِيَّاتُ النَّاسِ أَقْسَامٌ؛ إذْ مِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ عَمَلُهُ إجَابَةً لِبَاعِثِ الْخَوْفِ فَإِنَّهُ يَتَّقِي النَّارَ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ إجَابَةً لِبَاعِثِ الرَّجَاءِ وَهُوَ الرَّغْبَةُ فِي الْجَنَّةِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ نَازِلًا بِالْإِضَافَةِ إلَى قَصْدِ طَاعَةِ اللَّهِ وَتَعْظِيمِهِ لِذَاتِهِ وَجَلَالِهِ لَا لِأَمْرٍ سِوَاهُ - فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ النِّيَّاتِ الصَّحِيحَةِ لِأَنَّهُ مَيْلٌ إلَى الْمَوْجُودِ فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمَأْلُوفِ فِي الدُّنْيَا اهـ.
كَلَامُ الْغَزَالِيِّ، وَهُوَ كَمَا تَرَى جَازِمٌ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ النِّيَّاتِ الصَّحِيحَةِ، وَإِنَّمَا خِلَافُهُ أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ.
(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - هَلْ يَجُوزُ ضَمُّ رَاءِ (أَكْبَرُ) مِنْ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ.
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: نَعَمْ يَجُوزُ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ صَاحِبِ الْبَيَانِ وَغَيْرِهِ، بَلْ قَوْلُهُمْ: لَوْ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَأَجَلُّ وَأَعْظَمُ، صَحَّ كَالصَّرِيحِ فِيهِ؛؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ ضَمُّ الرَّاءِ، وَمِنْ ثَمَّ أَفْتَى بِهِ جَمْعٌ مُتَأَخِّرُونَ كَالنَّجْمَيْنِ الْأَصْفُونِيِّ وَالطَّبَرِيِّ وَالسَّرَّاجِ بْنِ الْمُلَقِّنِ، وَقَوْلُ ابْنِ يُونُسَ أَنَّهُ مُبْطِلٌ - ضَعِيفٌ وَإِنْ تَبِعَهُ ابْنُ الْعِمَادِ وَالدَّمِيرِيُّ وَالنَّاشِرِيُّ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي خَبَرِ التَّكْبِيرِ جَزْمٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ جَزْمُ الْقَلْبِ لَا اللَّفْظِ؛؛ لِأَنَّ الْجَزْمَ مِنْ خَوَاصِّ الْأَفْعَالِ.
(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِعُلُومِهِ - عَمَّنْ أَبْدَلَ هَمْزَةَ (أَكْبَرُ) وَاوًا فَهَلْ يَصِحُّ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: لَا يَصِحُّ عَلَى الْأَوْجَهِ، وَزَعَمَ ابْنُ الْعِمَادِ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ الْمُنِيرِ الْمَالِكِيِّ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْهَمْزَةَ قَدْ تُبْدَلُ وَاوًا كَإِشَاحٍ وَوِشَاحٍ غَيْرُ بَعِيدٍ فِيهِ نَظَرٌ، بَلْ هُوَ بَعِيدٌ؛ إذْ الْمَدَارُ فِي لَفْظِ التَّكْبِيرِ عَلَى الِاتِّبَاعِ مَا أَمْكَنَ، وَكَذَا لَوْ أَبْدَلَ الْكَافَ هَمْزَةً.
(وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَلْ يَقُومُ (أَعْظَمُ) مَقَامَ (أَكْبَرُ) وَمَعْنَاهُمَا كَالْجَلِيلِ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: لَا يَقُومُ مَقَامَ (أَكْبَرُ) شَيْءٌ لِلِاتِّبَاعِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ - تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ -: لَا يَقُومُ (أَعْظَمُ) مَقَامَ (أَكْبَرُ) ؛؛ لِأَنَّ الرِّدَاءَ أَشْرَفُ مِنْ الْإِزَارِ أَيْ: الْمُشَارِ إلَيْهِ؛ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ اللَّهِ «الْعَظَمَةُ إزَارِي وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، مَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَصَمْته» وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّجَمُّلَ يَكُونُ بِالرِّدَاءِ.
وَهَذَا تَمْثِيلٌ كُنِّيَ بِهِ عَنْ الصِّفَةِ، وَالثَّوْبِ يُكَنَّى بِهِ عَنْ الصِّفَةِ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: ٢٦] .
قَالَ الْغَزَالِيُّ وَمَعْنَى الْكَبِيرِ: ذُو الْكِبْرِ، وَالْكِبْرِيَاءُ: كَمَالُ الذَّاتِ، وَأَعْنِي بِكَمَالِ الذَّاتِ كَمَالَ الْوُجُودِ؛ وَهُوَ يَرْجِعُ إلَى شَيْئَيْنِ، أَحَدُهُمَا: دَوَامُهُ أَزَلًا وَأَبَدًا، فَكُلُّ مَوْجُودٍ مَقْطُوعٍ بِعَدَمِ سَابِقٍ، أَوْ لَاحِقٍ فَهُوَ نَاقِصٌ. وَالثَّانِي: