بِقَوْلِهِ لَا يُسَنُّ التَّلْقِينُ قَبْلَ إهَالَةِ التُّرَابِ بَلْ بَعْدَهُ كَمَا اعْتَمَدَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَجَزَمْتُ بِهِ فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ وَإِنْ اخْتَارَ ابْنُ الصَّلَاحِ أَنَّهُ يَكُونُ قَبْلَ الْإِهَالَةِ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ وَسَوَاءٌ فِيمَا قَالُوهُ فِي الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الطِّفْلِ مَاتَ فِي حَيَاةِ أَبَوَيْهِ أَمْ لَا لَكِنْ خَالَفَهُ الزَّرْكَشِيُّ فَقَالَ إنْ كَانَ أَبَوَاهُ مَيِّتَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا أَتَى بِمَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ وَالدَّمِيرِيُّ فَقَالَ إنْ كَانَ أَبَوَاهُ مَيِّتَيْنِ لَمْ يَدْعُ لَهُمَا.
وَاَلَّذِي قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ أَوْجَهُ كَمَا ذَكَرْتُهُ فِي شَرْحِ الْعُبَابِ فَحِينَئِذٍ يَقُولُ اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ فَرَطًا لِأَبَوَيْهِ وَسَلَفًا وَذُخْرًا وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ كُلُّهَا لَائِقَةٌ بِالْمَيِّتِ وَالْحَيِّ فَلْيَأْتِ بِهَا سَوَاءٌ كَانَا حَيَّيْنِ أَوْ مَيِّتَيْنِ أَمَّا السَّلَفُ وَالذُّخْرُ فَوَاضِحٌ وَأَمَّا الْفَرَطُ فَهُوَ السَّابِقُ الْمُهَيِّئُ لِمَصَالِحِهِمَا فِي الْآخِرَةِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ السَّبْقَ بِالْمَوْتِ بَلْ السَّبْقَ بِتَهْيِئَةِ الْمَصَالِحِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَيِّتَ يَحْتَاجُ إلَى مَنْ يَسْبِقُهُ إلَى الْجَنَّةِ أَوْ الْمَوْقِفِ لِيُهَيِّئَ لَهُ الْمَصَالِحَ وَوَلَدُهُ الطِّفْلُ كَذَلِكَ.
وَأَمَّا الْعِظَةُ فَتَخْتَصُّ بِالْحَيِّ فَيَقُولُ وَعِظَةً لِلْحَيِّ مِنْ أَبَوَيْهِ فَإِنْ مَاتَا حَذَفَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ وَكَذَلِكَ الِاعْتِبَارُ وَالشَّفِيعُ عَامٌّ لِلْحَيِّ وَالْمَيِّتِ فَيَأْتِي بِهِ فِيهِمَا وَتَثْقِيلُ الْمَوَازِينِ كَذَلِكَ بِخِلَافِ أَفْرِغْ الصَّبْرَ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَأْتِي بِالْأَلْفَاظِ كُلِّهَا سَوَاءٌ كَانَا حَيَّيْنِ أَمْ مَيِّتَيْنِ إلَّا قَوْلَهُ عِظَةً وَاعْتِبَارًا وَأَفْرِغْ الصَّبْرَ فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي بِهَا إلَّا إذَا كَانَا حَيَّيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا فَإِنْ كَانَا حَيَّيْنِ فَوَاضِحٌ أَوْ أَحَدُهُمَا فَقَطْ ذَكَرَهُ فَقَالَ وَعِظَةً وَاعْتِبَارًا لِلْحَيِّ مِنْهُمَا وَأَفْرِغْ الصَّبْرَ عَلَى قَلْبِ الْحَيِّ مِنْهُمَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ قَوْلِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا فِي شَرْحِ الرَّوْضِ الرُّوحُ جِسْمٌ لَطِيفٌ وَهُوَ بَاقٍ لَا يَفْنَى عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَقَالَ فِي الْأَضْوَاءِ الْبَهِجَةِ فِي إبْرَازِ دَقَائِقِ الْمُنْفَرِجَةِ حَقِيقَةُ الرُّوحِ لَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَيْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنُمْسِكَ وَلَا نُعَبِّرُ عَنْهَا بِأَكْثَرَ مِنْ مَوْجُودٍ كَمَا قَالَ الْجُنَيْدُ وَذَكَرَ أَنَّ أَهْلَ الْكَلَامِ اخْتَلَفُوا فِيهَا فَمَا الرَّاجِحُ الْمُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ مَا قَالَهُ شَيْخُنَا سَقَى اللَّهُ عَهْدَهُ فِي شَرْحِ الْمُنْفَرِجَةِ هُوَ طَرِيقَةُ الْمُحْتَاطِينَ كَالْجُنَيْدِ وَعَلَيْهِ كَثِيرُونَ مِنْ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ كَالثَّعْلَبِيِّ وَابْنِ عَطِيَّةَ وَعَلَيْهِ حَمَلُوا قَوْله تَعَالَى {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: ٨٥] وَلَمْ يُبَيِّنْهُ لَهُمْ وَمَشَى فِي شَرْحِ الرَّوْضِ عَلَى مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَنَّهَا جِسْمٌ لَطِيفٌ مُشْتَبِكٌ بِالْبَدَنِ اشْتِبَاكَ الْمَاءِ بِالْعُودِ الْأَخْضَرِ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا.
وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إلَى أَنَّهُ عَرَضٌ وَأَنَّهُ هُوَ الْحَيَاةُ الَّتِي صَارَ الْبَدَنُ بِوُجُودِهَا حَيًّا وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ تَبَعًا لِلْفَلَاسِفَةِ لَيْسَتْ بِجِسْمٍ وَلَا عَرَضٍ بَلْ جَوْهَرٌ مُجَرَّدٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُتَحَيِّزٍ وَلَهُ تَعَلُّقٌ خَاصٌّ بِالْبَدَنِ لِلتَّدْبِيرِ وَالتَّحْرِيكِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْبَدَنِ وَلَا خَارِجٍ عَنْهُ قَالَ السُّهْرَوَرْدِيُّ وَيَدُلُّ لِلْأَوَّلِ الْأَخْبَارُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّهُ جِسْمٌ لِمَا وَرَدَ عَنْهُ مِنْ الْهُبُوطِ وَالْعُرُوجِ وَالتَّرَدُّدِ فِي الْبَرْزَخِ وَالْعَرَضُ لَا يُوصَفُ بِذَلِكَ وَقَدْ تَكَلَّمَ عَلَيْهَا مُتَأَخِّرُو الصُّوفِيَّةِ فَنُقِلَ الْإِمْسَاكُ عَنْهُمْ الْمُرَادُ بِهِمْ مُتَقَدِّمُوهُمْ وَأَجَابَ الْخَائِضُونَ فِيهَا عَنْ الْآيَةِ بِأَنَّ سَبَبَهَا أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا أَرَادُوا سُؤَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهَا قَالُوا إنْ أَجَابَ عَنْهَا فَلَيْسَ بِنَبِيٍّ وَإِنْ لَمْ يُجِبْ فَهُوَ صَادِقٌ فَلَمْ يُجِبْ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ تَأْكِيدًا لِمُعْجِزَتِهِ وَتَصْدِيقًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ وَصْفِهِ فِي كُتُبِهِمْ لَا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْكَلَامُ فِيهِ وَأَيْضًا فَسُؤَالُهُمْ كَانَ تَعْجِيزًا وَتَغْلِيطًا لِأَنَّ الرُّوحَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ لِرُوحِ الْإِنْسَانِ وَجِبْرِيلَ وَمَلَكٍ آخَرَ يُقَالُ لَهُ الرُّوحُ وَصِنْفٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْقُرْآنِ وَعِيسَى فَقَصَدُوا أَنَّهُمْ إذَا أَجَابَهُمْ بِوَاحِدٍ مِمَّا ذُكِرَ قَالُوا لَيْسَ هَذَا فَجَاءَ الْجَوَابُ شَامِلًا لِكُلٍّ مِمَّنْ ذُكِرَ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ صَحَّ أَنَّ الْيَهُودَ سَأَلُوهُ عَنْهَا بِمَكَّةَ وَصَحَّ مَا يُصَرِّحُ بِأَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْهَا بِالْمَدِينَةِ أَيْضًا وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ السُّؤَالَ تَكَرَّرَ وَكَذَلِكَ النُّزُولُ تَكَرَّرَ وَإِنَّمَا سَكَتَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَرَّةِ الْمَدِينَةِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ نَزَلَ عَلَيْهِ الْجَوَابُ بِمَكَّةَ لِتَوَقُّعِ مَزِيدِ بَيَانٍ فَلَمْ يُبَيَّنْ لَهُ شَيْءٌ زَائِدٌ عَلَى الْجَوَابِ الْأَوَّلِ وَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْآيَةُ مَرَّةً ثَانِيَةً وَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالرُّوحِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ وَالرَّاجِحُ كَمَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَالْفَخْرُ الرَّازِيّ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ رُوحِ الْإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْحَيَاةِ وَأَنَّ الْجَوَابَ وَقَعَ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَبَيَانُهُ أَنَّ السُّؤَالَ عَنْ الرُّوحِ يَحْتَمِلُ عَنْ مَاهِيَّتِهِ وَهَلْ هِيَ مُتَحَيِّزَةٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute