بِأَنَّ الصَّوَابَ مَعَ الْقَائِلِ بِاسْتِحْبَابِ صَوْم يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ وَرَجَب وَبَاقِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَمَنْ قَالَ إنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ وَنَهَى النَّاسَ عَنْ صَوْمِهِ فَهُوَ مُخْطِئٌ بَلْ وَآثِمٌ؛ لِأَنَّ غَايَةَ أَمْرِهِ أَنَّهُ عَامِّيٌّ وَالْعَامِّيُّ لَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ الْأَقْوَالِ الضَّعِيفَةِ وَالْأَخْذُ بِقَضِيَّتِهَا وَقَدْ اتَّفَقَ أَئِمَّتُنَا عَلَى ضَعْفِ مَقَالَةِ الْحَلِيمِيِّ الْمَذْكُورَة فِي السُّؤَالِ بَلْ عَلَى غَرَابَتِهَا وَشُذُوذِهَا وَأَنَّهَا مُنَابِذَةٌ لِلسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ بَسْطِ أَحْوَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صِيَامِهِ وَخُلَاصَته أَنَّ صِيَامَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي السَّنَةِ وَالشَّهْرِ عَلَى أَنْوَاعٍ وَلَمْ يَكُنْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا يَقُومُ اللَّيْلَ كُلَّهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى ذَلِكَ لِئَلَّا يُقْتَدَى بِهِ فَيَشُقُّ عَلَى أُمَّتِهِ وَإِنَّمَا كَانَ يَسْلُكُ الْوَسَطَ وَيَصُومُ حَتَّى يُظَنَّ أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ وَيُفْطِرُ حَتَّى يُظَنَّ أَنَّهُ لَا يَصُومُ وَيَقُومُ حَتَّى يُظَنَّ أَنَّهُ لَا يَنَامُ وَيَنَامُ حَتَّى يُظَنَّ أَنَّهُ لَا يَقُومُ.
النَّوْعُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَصُومُ عَاشُورَاءَ» وَهُوَ عَاشِرُ الْمُحَرَّمِ وَفِي قَوْلٍ ضَعِيفٍ أَنَّهُ تَاسِعُهُ وَكَانَ صِيَامُهُ لَهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ:
أَوَّلُهَا أَنَّهُ كَانَ يَصُومهَا بِمَكَّةَ وَلَا يَأْمُرُ النَّاسَ بِصِيَامِهِ وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عَائِشَةَ «كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَيْ قَبْلَ نُزُولِ الْوَحْيِ مُوَافَقَةً لَهُمْ فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ تَرَكَ عَاشُورَاءَ» أَيْ وُجُوبَهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا أَوْ تَأَكَّدَ طَلَبُهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ سُنَّةً وَيُؤَيِّدهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَصُومهُ إلَّا أَنْ يُوَافِقَ صَوْمَهُ وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْيِين وَقْت الْأَمْرِ بِصَوْمِهِ وَهُوَ أَوَّلُ قُدُومِ الْمَدِينَةِ وَكَانَ فِي رَبِيعِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِهِ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ وَفِيهَا فُرِضَ رَمَضَانُ فَلَمْ يَقَع الْأَمْرُ بِهِ إلَّا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ بَعْدَ فَرْضِ رَمَضَان فُرِضَ صَوْمُهُ لَهُ أَيْ التَّطَوُّع فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا يَكُونُ نُسِخَ بِذَلِكَ.
ثَانِيهَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَرَأَى صَوْمَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَتَعْظِيمِهِمْ لَهُ وَكَانَ يُحِبُّ مُوَافَقَتَهُمْ فِيمَا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ صَامَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ وَأَكَّدَ الْأَمْرَ بِصِيَامِهِ وَالْحَثَّ عَلَيْهِ حَتَّى كَانُوا يُصَوِّمُونَهُ أَطْفَالَهُمْ وَصِيَامُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ بِالْمَدِينَةِ فَلَمْ يَكُنْ اعْتِمَادًا عَلَى مُجَرَّدِ أَخْبَارِ آحَادِهِمْ بَلْ كَانَ بِوَحْيٍ أَوْ تَوَاتُرٍ أَوْ اجْتِهَادٍ وَقِيلَ اسْتِئْلَافًا لَهُمْ لَا اقْتِدَاءً بِهِمْ فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ قَبْلَ ذَلِكَ ثُمَّ لَمَّا زَالَ الِاسْتِئْلَافُ بِفَتْحِ مَكَّةَ أَحَبَّ مُخَالَفَتَهُمْ فَقَالَ «لَئِنْ بَقَيْتُ إلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْقَابِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
ثَالِثُهَا أَنَّهُ لَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ تَرَكَ صِيَامَ عَاشُورَاء وَقَالَ «إنَّهُ يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ اللَّهِ فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ» رَابِعُهَا أَنَّهُ عَزَمَ فِي آخِرِ عُمَرِهِ عَلَى ضَمِّ التَّاسِعِ إلَيْهِ مُخَالَفَةً لِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي صِيَامِهِ كَمَا مَرَّ فَمَرَاتِبُ صَوْمِهِ ثَلَاثَةٌ أَدْنَاهَا صَوْمُهُ وَحْدَهُ ثُمَّ مَعَ التَّاسِعِ ثُمَّ مَعَهُ وَمَعَ الْحَادِيَ عَشَرَ فَهَذَا أَكْمَلُهَا وَصَحَّ أَنَّ صَوْمَ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ سَنَةً وَصَوْمَ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ فَصَوْمُهُ أَفْضَلُ مِنْ صَوْمِ عَاشُورَاءَ؛ لِأَنَّهُ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ عِنْد جَمَاعَةٍ وَلِأَنَّهُ أَفْضَلُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَسَيَأْتِي أَنَّ الْعَمَلَ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْهُ فِي سَائِرِ السَّنَةِ وَقِيلَ إنَّهُ مَنْسُوبٌ لِنَبِيِّنَا وَعَاشُورَاء مَنْسُوبٌ لِمُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ - وَوَرَدَ مِنْ طُرُقٍ صَحَّحَ بَعْضَهَا بَعْضُ الْحُفَّاظِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ «مَنْ وَسَّعَ عَلَى عِيَالِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ السَّنَةَ كُلَّهَا» .
النَّوْعُ الثَّانِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ. رَوَى الشَّيْخَانِ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَصُمْ شَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَان فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ» وَفِي رِوَايَاتٍ «كَانَ يَصُومهُ إلَّا قَلِيلًا» وَبِهَا يُعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكُلِّ الْأَكْثَرُ أَوْ كَانَ مَرَّةً يَصُومهُ جَمِيعَهُ وَمَرَّةً يَصُومُ مُعْظَمَهُ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ وُجُوبُهُ وَحِكْمَةُ إكْثَارِ الصَّوْمِ فِيهِ مَعَ نَصِّهِ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَ الصِّيَامِ مَا يَقَعُ فِي الْمُحَرَّم فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ صَوْمُ الْمُحَرَّمِ» أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَم ذَلِكَ إلَّا آخِرَ عُمْرِهِ فَلَمْ يَتَمَكَّن مِنْ كَثْرَةِ الصَّوْمِ فِي الْمُحَرَّمِ أَوْ اتَّفَقَ لَهُ مِنْ الْأَعْذَارِ كَالسَّفَرِ مَا مَنَعَهُ مِنْ كَثْرَةِ الصَّوْمِ فِيهِ أَوْ كَانَ يَشْتَغِلُ عَنْ صَوْمِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي مِنْ كُلِّ شَهْرٍ فَيَقْضِيهَا فِي شَعْبَانَ كَمَا وَرَدَ مِنْ طَرِيقٍ ضَعِيفٍ بَلْ فِيهَا ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَقَدْ رُمِيَ بِوَضْعِ الْحَدِيث أَوْ لِيُعَظِّمَ رَمَضَان كَمَا فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute