الْغَسْلَ أَفْضَلُ فَقَطْ، وَأَمَّا التَّمْزِيقُ فَقَدْ ذَكَرَ الْحَلِيمِيُّ فِي مِنْهَاجِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَمْزِيقُ وَرَقَةٍ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ أَوْ اسْمُ رَسُولِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْطِيعِ الْحُرُوفِ وَتَفْرِيقِ الْكَلِمَةِ وَفِي ذَلِكَ إزْرَاءٌ بِالْمَكْتُوبِ، فَالْوَجْهُ الثَّالِثُ شَاذٌّ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ فَإِنْ قُلْت: وَجْهُ الضَّعِيفِ أَيْضًا أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ لَمَّا رُكِّبَ مِنْهَا هَذَا الِاسْمُ الْمُعَظَّمُ ثَبَتَ لَهَا التَّعْظِيمُ، فَتَفْرِيقُهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ إهْدَارَ مَا ثَبَتَ لَهَا.
قُلْت إنَّمَا يَأْتِي ذَلِكَ عَلَى مَا مَالَ إلَيْهِ السُّبْكِيّ مِنْ أَنَّ الْحُرُوفَ الْمُقَطَّعَةَ حُكْمُهَا حُكْمُ الْكَلِمَاتِ الشَّرِيفَةِ، وَمُقْتَضَى كَلَامِهِمْ خِلَافُهُ فَإِنْ قُلْت: يُنَافِي ذَلِكَ حُرْمَةُ تَلَفُّظِ الْجُنُبِ بِحَرْفٍ مِنْ الْقُرْآنِ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الرَّوْضَةِ، وَأَصْلُهَا وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْمَجْمُوعِ.
قُلْت: لَا يُنَافِيه؛ لِأَنَّ تَلَفُّظَهُ بِهِ بِقَصْدِ الْقِرَاءَةِ شُرُوعٌ فِي الْمَعْصِيَةِ؛ فَالتَّحْرِيمُ لِذَلِكَ لَا لِكَوْنِهِ يُسَمَّى قَارِئًا وَبِهَذَا أَيْضًا يُجَابُ عَنْ قَوْلِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ: لَا ثَوَابَ فِي قِرَاءَةِ أَحَدِ جُزْأَيْ الْكَلِمَةِ فَمَا تَوَهَّمَهُ الْإِسْنَوِيُّ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ يُخَالِفُ مَا مَرَّ وَأَنَّ الْأَوْجَهَ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ التَّلَفُّظُ يُرَدُّ بِمَا ذَكَرْتُهُ، وَيُرَدُّ بِهِ أَيْضًا عَلَى مَنْ اعْتَمَدَ كَلَامَ الْإِسْنَوِيِّ وَأُخِذَ مِنْهُ أَنَّ الَّذِي يَجِبُ احْتِرَامُهُ مِنْ الْقُرْآنِ هُوَ الْجُمَلُ الْمُفِيدَةُ، بَلْ هَذَا الْأَخِيرُ زَلَّةٌ يُسْتَغْفَرُ مِنْهَا.
(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَمَّا إذَا وَجَدَ الْقَارِئُ غَلَطًا فِي شَكْلِ الْمُصْحَفِ الْكَرِيمِ أَوْ حُرُوفِهِ هَلْ يَلْزَمُهُ إصْلَاحُهُ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ إنْ كَانَ مِلْكَهُ أَوْ عَلِمَ رِضَا مَالِكِهِ لَزِمَهُ إصْلَاحُهُ وَكَذَا لَوْ كَانَ وَقْفًا، وَخَطُّهُ لَا يَعِيبُهُ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ لَهُ إصْلَاحُهُ وَهَذَا التَّفْصِيلُ ظَاهِرٌ وَإِنْ لَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِهِ ثُمَّ رَأَيْتنِي ذَكَرْت فِي شَرْحِ الْعُبَابِ مَا لَفْظُهُ: وَنَقَلَ الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ الْعَبَّادِيِّ أَنَّ مَنْ اسْتَعَارَ كِتَابًا فَوَجَدَ فِيهِ خَطَأً لَمْ يَجُزْ لَهُ إصْلَاحُهُ وَإِنْ كَانَ مُصْحَفًا وَجَبَ، وَقَيَّدَهُ الْبَدْرُ بْنُ جَمَاعَةَ وَالسَّرَّاجُ الْبُلْقِينِيُّ بِالْمَمْلُوكِ قَالَا أَمَّا الْمَوْقُوفُ فَيَجُوزُ إصْلَاحُهُ وَظَاهِرٌ أَنَّ مَحَلَّهُ إذَا كَانَ خَطُّهُ مُسْتَصْلَحًا اهـ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْعَبَّادِيِّ أَنَّ الْمُصْحَفَ يَجِبُ إصْلَاحُهُ مُطْلَقًا وَلَهُ وَجْهٌ إنْ لَمْ يُعِبْهُ ذَلِكَ الْإِصْلَاحُ فَإِنَّ عَيَّبَهُ لِرَدَاءَةِ خَطِّ الْمُصْلِحِ فَيَنْبَغِي تَحْرِيمُهُ وَظَاهِرٌ أَنَّ مَحَلَّ الْوُجُوبِ أَيْضًا مَا إذَا كَانَ ذَلِكَ الْإِصْلَاحُ قَلِيلًا لَا يُقَابَلُ بِأُجْرَةٍ فَإِنْ كَانَ كَثِيرًا بِحَيْثُ يُقَابَلُ بِهَا فَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا إنْ جَعَلَ لَهُ مَالِكُ الْمُصْحَفِ أَوْ نَاظِرُهُ أُجْرَةً فِي مُقَابَلَتِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُمْ لَوْ سُئِلَ فِي تَعْلِيمِ الْفَاتِحَةِ لِمَنْ يَجْهَلُهَا وَجَبَ عَلَيْهِ تَعْلِيمُهُ إيَّاهَا وَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غَيْرُهُ لَكِنْ لَا مَجَّانًا بَلْ بِأُجْرَةٍ فَلَمْ يَجْعَلُوا التَّعَيُّنَ مَانِعًا مِنْ اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِمَا لَفْظُهُ صَرَّحُوا بِأَنَّ نِسْيَانَ الْقُرْآنِ كَبِيرَةٌ فَكَيْفَ ذَلِكَ مَعَ خَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ لَا يَقُولُ أَحَدُكُمْ نَسِيت آيَةَ كَذَا وَكَذَا، بَلْ يَقُولُ نُسِّيت وَخَبَرُهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ فَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَقَدْ أَذْكَرَنِي آيَةً كُنْت أَسْقَطْتُهَا وَمَا الْمُرَادُ بِالنِّسْيَانِ وَهَلْ يُعْذَرُ بِهِ إذَا كَانَ لِاشْتِغَالِهِ بِمَعِيشَةِ عِيَالِهِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا؟ وَهَلْ يَشْمَلُ ذَلِكَ نِسْيَانَ الْخَطِّ بِأَنْ كَانَ يَقْرَؤُهُ غَيْبًا، وَمِنْ الْمُصْحَفِ فَصَارَ لَا يَقْرَؤُهُ إلَّا غَيْبًا وَفِي عَكْسِهِ هَلْ يَحْرُمُ أَيْضًا؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ وَالْحَدِيثِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ نِسْيَانَ الْقُرْآنِ كَبِيرَةٌ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِأَنْ يَقُولَ نُسِّيتُ بِتَشْدِيدِ السِّينِ أَوْ أُنْسِيت إنَّمَا هُوَ لِرِعَايَةِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فِي إضَافَةِ الْأَشْيَاءِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا مِنْهُ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا، وَنِسْبَتُهَا لِلْعَبْدِ إنَّمَا هِيَ مِنْ حَيْثُ الْكَسْبُ وَالْمُبَاشَرَةُ فَأَمَرَنَا بِرِعَايَةِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْعَظِيمَةِ النَّفْعِ الْعَزِيزَةِ الْوَقْعِ الَّتِي ضَلَّ فِيهَا الْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ كَالزَّيْدِيَّةِ، فَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النِّسْيَانَ كَبِيرَةٌ وَلَا أَنَّهُ غَيْرُ كَبِيرَةٍ كَمَا اتَّضَحَ مِمَّا قَرَّرْته.
وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّسْيَانِ الْمُحَرَّمِ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ مُعَاوَدَةُ حِفْظِهِ الْأَوَّلِ إلَّا بَعْدَ مَزِيدِ كُلْفَةٍ وَتَعَبٍ لِذَهَابِهِ عَنْ حَافِظَتِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَمَّا النِّسْيَانُ الَّذِي يُمْكِنُ مَعَهُ التَّذَكُّرُ بِمُجَرَّدِ السَّمَاعِ أَوْ إعْمَالِ الْفِكْرِ فَهَذَا سَهْوٌ لَا نِسْيَانٌ فِي الْحَقِيقَةِ فَلَا يَكُونُ مُحَرَّمًا وَتَأَمَّلْ تَعْبِيرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَسْقَطْتُهَا دُونَ أُنْسِيتهَا يَظْهَرُ لَك مَا قُلْنَاهُ وَلَا يُعْذَرُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لِاشْتِغَالِهِ بِمَعِيشَةٍ ضَرُورِيَّةٍ لِأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يُمْكِنُهُ الْمُرُورُ عَلَيْهِ بِلِسَانِهِ أَوْ قَلْبِهِ فَلَمْ يُوجَدْ فِي الْمَعَايِشِ مَا يُنَافِي هَذَا الْمُرُورَ فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهَا عُذْرًا فِي النِّسْيَانِ نَعَمْ الْمَرَضُ الْمُشْغِلُ أَلَمُهُ لِلْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْمُضْعِفُ لِلْحَافِظَةِ عَنْ أَنْ يَثْبُتَ فِيهَا مَا كَانَ فِيهَا لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ عُذْرًا؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ النَّاشِئَ مِنْ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ بِهِ مُقَصِّرًا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ، إذْ الْفَرْضُ أَنَّهُ شُغِلَ قَهْرًا عَنْهُ بِمَا لَمْ يُمْكِنْهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute