وَهَذَا لَا يَكْفِي فَإِنْ قُلْت يَرُدُّ عَلَى مَا قَرَّرْته فِي هَذَا الْبَابِ جَمِيعِهِ الْقَاعِدَةُ الْمَشْهُورَةُ وَهِيَ أَنَّ الِاصْطِلَاحَ الْخَاصَّ لَا يَرْفَعُ الِاصْطِلَاحَ الْعَامَّ وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِأَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ تَغْيِيرُ اللُّغَةِ بِالِاصْطِلَاحِ وَهَلْ يُجَوِّزُ لِلْمُصْطَلِحِينَ نَقْلُ اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ بِالْكُلِّيَّةِ أَوْ يُشْتَرَطُ بَقَاءُ أَصْلِ الْمَعْنَى وَلَا يُتَصَرَّفُ فِيهِ بِأَكْثَرَ مِنْ التَّخْصِيصِ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْأُصُولِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ وَالْمُخْتَار الثَّانِي وَمِنْ فُرُوعِهَا لَوْ اتَّفَقَ الْخَاطِبُ وَالْمَخْطُوبَةُ عَلَى أَنْ يُعَبَّرَ فِي الْعَقْد عَنْ الْأَلْفِ بِأَلْفَيْنِ وَجَبَا عَلَى الْأَظْهَرِ إعْمَالًا لِلَّفْظِ الصَّرِيحِ وَمُقَابِلُهُ يَجِبُ أَلْفٌ فَقَطْ عَمَلًا بِاصْطِلَاحِهِمَا قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ تَجْرِي الْأَحْكَامُ الْمُتَلَقَّاةُ مِنْ الْأَلْفَاظِ.
فَلَوْ قَالَ إذَا قُلْت أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لَمْ أُرِدْ بِهِ الطَّلَاقَ بَلْ الْقِيَامَ مَثَلًا أَوْ وَاحِدَةً لَمْ يُعْتَبَرْ بِمَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ عَلَى الْأَصَحِّ وَلَوْ عَمَّ فِي نَاحِيَة اسْتِعْمَالِ الطَّلَاق فِي إرَادَةِ الِانْطِلَاقِ ثُمَّ خَاطَبَهَا بِهِ مُرِيدًا بِهِ حَلَّ الْوَثَاق لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَالْعُرْفُ إنَّمَا يَعْمَلُ فِي إزَالَةِ الْإِيهَامِ لَا فِي تَغْيِيرِ مُقْتَضَى الصَّرَائِحِ اهـ وَمِنْهَا لَوْ قَالَ مَتَى قُلْت أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَإِنَّ أُرِيدُ الطَّلَاقَ ثُمَّ قَالَهُ فَقِيلَ تَطْلُقُ عَمَلًا بِمَا قَالَهُ قَبْل وَالْأَصَحُّ فِي الرَّوْضَةِ أَنَّهُ كَمَا لَوْ ابْتَدَأَ بِهِ لِاحْتِمَالِ أَنَّ نِيَّتَهُ تَغَيَّرَتْ وَمِنْهَا لَوْ قَالَ مَنْ لَهُ أَمَةٌ أُرِيدُ أَنْ أُلَقِّبَهَا بِحُرَّةٍ ثُمَّ قَالَ يَا حُرَّةُ فَفِي الْبَسِيطِ الظَّاهِرِ أَنَّهَا لَا تَعْتِقُ إذَا قَصَدَ النِّدَاءَ وَمِنْهَا لَوْ قَالَ أُرِيد أَنْ أُقِرَّ بِمَا لَيْسَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْف قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَاصِمٍ لُغِيَ إقْرَاره وَقَالَ صَاحِب التَّتِمَّةِ الصَّحِيحُ لُزُومه كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْف لَا تَلْزَمُنِي قُلْت لَيْسَ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَلَا فِي فُرُوعهَا مَا يُشْكِلُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ إلَّا عَلَى مَا قَالُوهُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ مَحَلّ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ كَمَا عَلِمْت مِنْ تَقْرِيرِهَا أَنْ يُؤْتَى بِلَفْظٍ لَهُ مَدْلُولٌ يَصِحُّ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ ثُمَّ يُرَادُ بِهِ لَفْظٌ آخَرُ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى هَذَا النَّقْلِ وَالِاسْتِعْمَالُ غَيْرُ مُجَرِّدِ الِاتِّفَاقِ وَالِاصْطِلَاحُ السَّابِقُ عَلَى أَنْ يُعَبَّرَ بِهَذَا عَنْ هَذَا وَلِذَلِكَ اتَّضَحَ مَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِهَذَا الِاصْطِلَاحِ وَالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ فِيهِ إلْغَاءَ اللَّفْظِ الصَّرِيحِ مَعَ صِحَّةِ اسْتِعْمَالِهِ فِي مَدْلُولِهِ بِمُجَرَّدِ اصْطِلَاحٍ سَابِقٍ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ لِضَعْفِ تِلْكَ الْقَرِينَةِ وَهِيَ اصْطِلَاحُ السَّابِقِ عَلَى أَنْ يُؤَثِّرَ فِي الصَّرِيحِ وَيُصْرِفَهُ إلَى غَيْرِ مَدْلُولِهِ وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَنْعَقِدْ الْبَيْعُ بِالْمُعَاطَاةِ وَإِنْ اطَّرَدَتْ الْعَادَةُ بَعْدَهَا بَيْعًا وَلَمْ يَسْتَحِقَّ الصَّانِعُ شَيْئًا بِغَيْرِ عَقْدٍ وَإِنْ اطَّرَدَتْ الْعَادَةُ بِأُجْرَتِهِ وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي مَسْأَلَتِنَا أَخْذًا مِمَّا ذَكَرُوهُ فِي الْمَسَائِلِ السَّابِقَةِ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا فِيهِ الْإِتْيَانُ بِلَفْظٍ لَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَدْلُولِهِ اللُّغَوِيِّ وَلَا يُتَوَهَّمُ عَاقِلٌ مِنْهُ ذَلِكَ وَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْ حَمْلُهُ عَلَى مَدْلُولِهِ اللُّغَوِيِّ تَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى مَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ عَمَلًا بِقَاعِدَةِ أَنَّ تَصْحِيحَ اللَّفْظِ مَا أَمْكَنَ أَوْلَى مِنْ إلْغَائِهِ وَبِالْقَرِينَةِ الصَّرِيحَةِ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُ مَدْلُولِهِ.
وَهِيَ قَوْلُهُمَا هُنَا مِنْ قَرَارِ كَذَا فَظَهَرَ أَنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ لَا تُشْبِهُ مَا نَحْنُ فِيهِ وَشَتَّانَ بَيْن لَفْظٍ صَرِيحٍ أَمْكَنَ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَدْلُولِهِ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ الْمُسْتَعْمَلِ فِيهِ تَقَدَّمَتْهُ قَرِينَةٌ ضَعِيفَةٌ عِنْد اسْتِعْمَالِهِ أُرِيدَ صَرْفُهُ عَنْ مَدْلُولِهِ ذَلِكَ إلَى مَدْلُولٍ آخَرَ لَمْ يُذْكَرْ هُوَ وَلَا مَا يَدُلّ عَلَيْهِ لِمُجَرَّدِ تِلْكَ الْقَرِينَةِ الضَّعِيفَةِ وَلَمْ يُمْكِنْ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَدْلُولِهِ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ الْمُسْتَعْمَلِ فِيهِ اقْتَرَنَ بِهِ لَفْظٌ صَرِيحٌ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ الْمُمْكِنِ صَرْف ذَلِكَ اللَّفْظ إلَيْهِ عَلَى ضَرْبٍ مِنْ التَّجَوُّزِ لِتِلْكَ الْقَرِينَةِ اللَّفْظِيَّةِ الْقَوِيَّةِ وَمَعَ هَذَا الْفَرْقِ الْوَاضِحِ بَيْن هَذَيْنِ الْمَقَامَيْنِ لَا يُتَخَيَّلُ الْتِبَاسُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا قَرَّرْته قَوْلُهُمْ الصَّرِيحُ يَصِيرُ كِنَايَةً بِالْقَرَائِنِ اللَّفْظِيَّةِ كَانَتْ طَالِق مِنْ وَثَاقٍ لِأَنَّ أَوَّل اللَّفْظ مُرْتَبِطٌ بِآخِرِهِ.
وَأَجَابَ الشَّافِعِيُّ عَمَّا يُقَالُ قَدْ يَعْقُبُهُ بَعْدَ طَلَّقْتُكِ الصَّرِيح نَدَمٌ فَيَقُولُ مِنْ وَثَاقٍ بِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِهَذَا التَّوَهُّمِ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُتَّصِلَ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِجَمِيعِهِ لَا بِبَعْضِهِ كَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَلَا يُقَالُ إنَّهُ خَافَ مِنْ النَّفْيِ فَاسْتَدْرَكَ بِالْإِثْبَاتِ.
وَيُؤَيِّدُ مَا قَرَّرْته أَيْضًا قَوْلُ الرَّافِعِيِّ فِي الْإِقْرَارِ اللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ صَرِيحًا فِي التَّصْدِيقِ قَدْ تَنْضَمُّ إلَيْهِ قَرَائِنُ تَصْرِفُهُ عَنْ مَوْضُوعِهِ إلَى الِاسْتِهْزَاءِ وَبَعْدَ أَنْ اتَّضَحَ لَك هَذَا الْمَقَامُ وَزَالَ عَنْك مَا اسْتَوْلَى عَلَى الْقَائِلِينَ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ فِي مَسْأَلَتِنَا مُطْلَقًا مِنْ الْعِنَادِ وَالْإِيهَامِ صَارَ الْحَقُّ لَدَيْكَ جَلِيًّا وَالْمُخَالِفُ فِيمَا قُلْنَاهُ مِنْ التَّفْصِيلِ وَالصِّحَّةِ فِي الْحَالَةِ السَّابِقَةِ غَبِيًّا وَسَاغَ لَك أَنْ تُؤَكِّدَ بِالْأَيْمَانِ لَمَّا قَامَ عِنْدَك مِنْ جَلِيِّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute