الْمَاءَ الْمَضْمُومَ لِلْقَرَارِ لَيْسَ مَجْهُولًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَلْ هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَغَايَتُهُ أَنَّهُ كَبَيْعِ الْغَائِبِ مَعَ الْحَاضِرِ وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْبَغَوِيَّ أَجْرَى فِيهِ خِلَافَ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَأَنَّهُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهَا فَإِنْ قُلْت صَرَّحَ الْقَاضِي بِأَنَّ الْمَاءَ الْجَارِي مَجْهُولٌ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ وَهُوَ يَرُدُّ مَا ذَكَرْتَهُ قُلْتُ لَا يَرُدُّهُ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِعَدَمِ صِحَّةِ بَيْعِهِ وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ لِذَلِكَ مَجْهُولٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
وَأَمَّا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَلَيْسَ مَجْهُولًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِأَنَّ الْمَدَارَ فِيهِ عَلَى مَا يُعْلَمُ بِوَجْهٍ مَا حَتَّى يُمْكِنَ تَوْزِيعُ الثَّمَنِ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمَعْلُومِ الَّذِي مَعَهُ وَمِمَّا يُعْلِمُك بِأَنَّ الْمَاءَ لَيْسَ مَجْهُولًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَنَّ الشَّيْخَيْنِ قَالَا لَوْ سَقَى أَرْضَهُ بِمَاءٍ مَمْلُوكٍ لِلْغَيْرِ لَزِمَهُ قِيمَةُ الْمَاءِ وَاعْتَرَضَهُمَا الْإِسْنَوِيُّ بِأَنَّ الصَّوَابَ لُزُومُ مِثْلِهِ لِأَنَّهُ مِثْلِيٌّ إلَّا فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ مَا لَوْ غَصَبَهُ فِي مَفَازَةٍ وَبِلُزُومِ الْمِثْل فِي مَسْأَلَتِنَا صَرَّحَ ابْنُ الصَّلَاحِ فَإِنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ لَهُ دُولَابٌ عَلَى نَهْرٍ عَظِيمٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ يُدِيرُهُ الْمَاءُ بِنَفْسِهِ وَيَرْتَفِعُ الْمَاءُ إلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ مُهَيَّأَةٍ لَهُ فَهَلْ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ بِمُجَرَّدِ صَيْرُورَتِهِ فِي كِيزَانِ الدُّولَابِ كَمَا لَوْ اسْتَقَاهُ لِنَفْسِهِ فِي إنَاءٍ وَلَوْ كَانَ الْمَاءُ يَنْصَبُّ مِنْ الدُّولَابِ فِي سَاقِيَةٍ مُخْتَصَّةٍ بِمِلْكِ صَاحِبِ الدُّولَابِ فَجَاءَ جَارٌ لَهُ فَخَرَّبَ السَّاقِيَةَ حَتَّى انْصَبَّ الْمَاءُ إلَى أَرْضِ الْجَارِ وَسَقَى بِهِ أَرْضَ نَفْسِهِ فَمَا الَّذِي يَلْزَمُهُ.
فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ نَعَمْ يَمْلِكُهُ بِمُجَرَّدِ حُصُولِهِ فِي كِيزَانِ الدُّولَابِ وَيَجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ مِثْلُ ذَلِكَ الْمَاءِ مُحَصَّلًا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْهُ قَنَاةً أَوْ غَيْرَهَا فَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى أَخْذِ قِيمَتِهِ جَازَ اهـ الْمَقْصُودُ مِنْهُ.
وَانْتَصَرَ الْأَذْرَعِيُّ لِلشَّيْخَيْنِ بِأَنَّ مَا صَوَّبَهُ الْإِسْنَوِيُّ فِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ وَمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ مِنْ تَصَرُّفِهِ وَهُوَ مُشْكِلٌ فَإِنَّ الْمَاءَ رِبَوِيٌّ وَمَعْرِفَةُ مَا اُغْتُصِبَ مِنْ مَاءٍ نَحْو الْقَنَاةِ وَسَقَى بِهِ الْأَرْضَ كَيْلًا أَوْ وَزْنًا لَا يَكَادُ يَنْضَبِطُ أَصْلًا وَلَا سِيَّمَا إذَا طَالَتْ الْمُدَّةُ فَكَيْفَ السَّبِيلُ إلَى مَعْرِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْقَدْرِ وَإِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ وَلَا شَكَّ فِيهِ فِي مُعْظَمِ الْأَحْوَالِ فَلَا سَبِيلَ إلَى الْإِلْزَامِ بِمِثْلٍ مَجْهُولٍ وَحِينَئِذٍ فَيَغْرَمُ الْقِيمَةَ لِلضَّرُورَةِ تَخْمِينًا اهـ وَتَبِعَهُ الزَّرْكَشِيُّ فَقَالَ الْمَاءُ الَّذِي تُسْقَى بِهِ الْأَرْضُ لَا يُتَصَوَّرُ رَدُّ مِثْلِهِ إمَّا لِكَثْرَتِهِ أَوْ لِعَدَمِ ضَبْطِهِ أَوْ لِعِزَّةِ وُجُودِهِ فَيَكُونُ كَمَا لَوْ عُدِمَ الْمِثْلُ فَيُرْجَعُ بِقِيمَتِهِ وَإِذَا تَأَمَّلْت مَا تَقَرَّرَ عَلِمْت أَنَّ الْمَاءَ مَعْلُومٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ إنْ أَوْجَبْنَا قِيمَتَهُ أَوْ مِنْ كُلِّهَا إنْ أَوْجَبْنَا مِثْلَهُ.
وَإِذَا تُصُوِّرَ وُجُوبُ قِيمَتِهِ خَرَجَ عَنْ الْجَهْلِ الْمُطْلَقِ وَالْمَحْذُورِ فِي ضَمِّ الْمَجْهُولِ إلَى الْمَعْلُومِ حَتَّى يَبْطُلَ الْبَيْعُ فِيهِمَا إنَّمَا هُوَ تَعَذُّرُ مَعْرِفَةِ الْقِسْطِ وَحَيْثُ دَوَاءُ وُجُوبِ الْقِيمَةِ فِي مِيَاهِ الْقَنَوَاتِ لَمْ يَتَعَذَّرْ الْقِسْطُ فَبَانَ صِحَّةُ إجْرَاءِ الشَّيْخَيْنِ خِلَافَ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فِي بَيْعِ الْمَاءِ وَالْقَرَارِ وَأَنَّهُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِمَا فِي ذَلِكَ وَإِنْ اغْتَرَّ كَثِيرُونَ بِقَوْلِ الْإِسْنَوِيِّ وَغَيْرِهِ يَنْبَغِي الْبُطْلَانُ فِيهِمَا لِتَعَذُّرِ الْإِجَازَةِ بِالْقِسْطِ لِلْجَهْلِ بِالْمَاءِ وَاعْلَمْ أَنَّ إجْرَاءَ خِلَافِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ لَا يَتَأَتَّى فِي مَسْأَلَتِنَا الَّتِي سُئِلْنَا عَنْهَا لِأَنَّ الْعَاقِدَيْنِ فِيهَا فِي الْحَالَيْنِ السَّابِقَيْنِ فِي الْبَابَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ لَمْ يُورِدَا الْبَيْعَ عَلَى الْمَاءِ وَالْقَرَارِ مَعًا وَإِنَّمَا أَوْرَدَاهُ عَلَى الْقَرَارِ وَحْدَهُ وَجَعَلَا الْمَاءَ تَابِعًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِمَا بِمَا لِلْحِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ حَقٍّ إلَخْ ثُمَّ قَالَ وَمِنْ مَائِهَا الْجَارِي بِهَا يَوْمَئِذٍ فَلَمْ يَجْعَلَا الْمَاءَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَبِيعِ وَإِنَّمَا جَعَلَاهُ مِنْ تَوَابِعِهِ فَهُوَ بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْبَيْعُ لَمْ يَقَعْ إلَّا عَلَى الْقَرَارِ فَيَصِحُّ فِيهِ بِكُلِّ الثَّمَنِ وَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ خِلَافُ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ السَّابِقِ فِي مَسْأَلَةِ الرَّوْضَةِ لِمَا عَلِمْته مِنْ الْجَمْعِ السَّابِقِ بَيْنَ عِبَارَتِهَا هُنَا وَعِبَارَتِهَا فِي الْبَيْعِ فَعَلَى فَرْضِ أَنَّ مَا فِيهَا فِي إحْيَاءِ الْمَوَاتِ ضَعِيفٌ لَا يَرِدُ ذَلِكَ عَلَى صُورَتِنَا فَتَنْبِيهٌ لِذَلِكَ فَإِنَّهُ مِمَّا يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ وَعُلِمَ مِمَّا قَرَّرْته فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَوْضِعِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ ضَعْفُ الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ مُرَادَ الرَّوْضَةِ بِعَدَمِ الصِّحَّةِ فِي الْمَاءِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أُجْرِيَ فِيهِ خِلَافُ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بِطَرِيقِ الْمِلْكِ إلَّا فِي الْأَرْضِ دُونَ الْمَاءِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَصِحُّ الْبَيْعُ فِيهِ بِطَرِيقِ الِاسْتِحْقَاقِ وَمِنْ ثَمَّ صَرَّحَ فِيهَا فِي الْمَوْضِعِ الثَّانِي بِصِحَّةِ الْبَيْعِ فِيهِمَا أَيْ فِي الْأَرْضِ بِطَرِيقِ الْقَصْدِ وَالْمِلْكِ وَفِي الْمَاءِ بِطَرِيقِ التَّبَعِ وَالِاسْتِحْقَاقِ وَمِمَّا يُضَعِّفُهُ أَيْضًا أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ رَدُّ إجْرَاءِ الرَّوْضَةِ خِلَاف تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فِي الْمَوْضِعِ الثَّالِثِ.
وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ فَائِدَةَ إجْرَائِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute