وَمُرَاعَاةِ قَوَاعِدِهِ وَكَفَى الْجَاهِلُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّفَوُّهِ مَعَ الْفَلْسَفِيِّ وَغَيْرِهِ الْعَارِفِ بِهِ بِبِنْتِ شَفَةٍ بَلْ يَصِيرُ نَحْوَ الْفَلْسَفِيِّ يَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ، وَذَلِكَ الْجَاهِلُ بِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْأَكَابِرِ سَاكِتًا لَا يُحِيرُ جَوَابًا وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَرَافِيُّ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ وَأَجَادَ حَيْثُ جَعَلَهُ شَرْطًا مِنْ شَرَائِطِ الِاجْتِهَادِ وَأَنَّ الْمُجْتَهِدَ مَتَى جَهِلَهُ سُلِبَ عَنْهُ اسْمُ الِاجْتِهَادِ فَقَالَ فِي بَحْثِ شُرُوطُ الِاجْتِهَادِ:
(يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ شَرَائِطِ الْحَدِّ وَالْبُرْهَانِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَمَنْ عَرَفَهُمَا اسْتَضَاءَ بِهِمَا؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ هِيَ الَّتِي تَضْبِطُ الْحَقَائِقَ التَّصَوُّرِيَّةَ فَمَنْ عَلِمَ ضَابِطَ شَيْءٍ اسْتَضَاءَ بِهِ، فَأَيُّ مَحَلٍّ وَجَدَهُ يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ عَلِمَ أَنَّهُ تِلْكَ الْحَقِيقَةُ وَمَا لَا فَلَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِ الْفُضَلَاءِ إذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي الْحَقَائِقِ فَحَكِّمُوا الْحُدُودَ، وَالْمُجْتَهِدُ يَحْتَاجُ فِي كُلِّ حُكْمٍ لِذَلِكَ الَّذِي يَجْتَهِدُ فِيهِ إنْ كَانَ حَقِيقَةً بَسِيطَةً - فَلَا يَضْبِطُهَا إلَّا الْحَدُّ، وَإِنْ كَانَ تَصْدِيقًا بِبَعْضِ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ - فَكُلُّ تَصْدِيقٍ مُفْتَقِرٌ لِتَصَوُّرَيْنِ فَيَحْتَاجُ فِي مَعْرِفَتِهِمَا لِضَابِطِهِمَا، فَهُوَ مُحْتَاجٌ لِلْحَدِّ كَيْفَ اتَّجَهَ فِي اجْتِهَادِهِ، وَشَرَائِطُهُ مَعْلُومَةٌ فِي عِلْمِ الْمَنْطِقِ، وَهُوَ وُجُوبُ الِاطِّرَادِ وَالِانْعِكَاسِ، وَأَنْ لَا يُحَدَّ بِالْأَخْفَى وَلَا بِالْمُسَاوِي فِي الْخَفَاءِ، وَلَا بِمَا لَا يُعْرَفُ الْمَحْدُودُ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ وَأَنْ لَا يَأْتِيَ بِاللَّفْظِ الْمُجْمَلِ، وَلَا بِالْمَجَازِ الْبَعِيدِ وَأَنْ يُقَدَّمَ الْأَعَمُّ عَلَى الْأَخَصِّ، وَأَمَّا شَرَائِطُ الْبُرْهَانِ فَيَحْتَاجُ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ يَدُلُّهُ عَلَى الْحُكْمِ قَطْعِيٍّ أَوْ ظَنِّيٍّ، وَكُلُّ دَلِيلٍ فَلَهُ شُرُوطٌ مُحَرَّرَةٌ فِي عِلْمِ الْمَنْطِقِ مَنْ أَخَطَأَ شَرْطًا مِنْهَا فَسَدَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَهُوَ يَعْتَقِدُهُ صَحِيحًا، وَتِلْكَ الشُّرُوطُ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ مَوَارِدِ الْأَدِلَّةِ وَضُرُوبِ الْأَشْكَالِ الْقِيَاسِيَّةِ
وَبَسَطَ ذَلِكَ عِلْمُ الْمَنْطِقِ، فَيَكُونُ الْمَنْطِقُ شَرْطًا فِي مَنْصِبِ الِاجْتِهَادِ فَلَا يُمْكِنُ حِينَئِذٍ أَنْ يُقَالَ: الِاشْتِغَالُ بِهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ أَوْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ الْمُتَقَدِّمِينَ كَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ لَمْ يَكُونُوا عَالَمِينَ بِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْدَحُ فِي حُصُولِ مَنْصِبِ الِاجْتِهَادِ لَهُمْ، نَعَمْ هَذِهِ الْعِبَارَاتُ الْخَاصَّةُ وَالِاصْطِلَاحَاتُ الْمُعَيَّنَةُ فِي زَمَانِنَا لَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَتُهَا، بَلْ مَعْرِفَةُ مَعَانِيهَا فَقَطْ اهـ. فَتَأَمَّلْ هَذَا الْكَلَامَ الْجَلِيلَ مِنْ هَذَا الْإِمَامِ الْجَلِيلِ - تَجِدْهُ قَدْ أَشْفَى الْعَيَّ وَأَزَالَ الْغَيَّ، وَنَاهِيك بِالسُّبْكِيِّ جَلَالَةً حَيْثُ قَالَ: (يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى الِاشْتِغَالِ فِيهِ الِاشْتِغَالُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْفِقْهِ حَتَّى يَتَرَوَّى مِنْهَا وَيَرْسَخَ فِي ذِهْنِهِ الِاعْتِقَادَاتُ الصَّحِيحَةُ، وَيَعْلَمَ مِنْ نَفْسِهِ صِحَّةَ الذِّهْنِ بِحَيْثُ لَا تَرُوجُ عِنْدَهُ الشُّبْهَةُ عَلَى الدَّلِيلِ، فَإِذَا وَجَدَ شَيْخًا نَاصِحًا دَيِّنًا حَسَنَ الْعَقِيدَةِ جَازَ لَهُ الِاشْتِغَالُ بِالْمَنْطِقِ وَيَنْتَفِعُ بِهِ وَيُعِينُهُ عَلَى الْعُلُومِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ الْعُلُومِ، وَأَنْفَعِهَا فِي كُلِّ بَحْثٍ، وَمَنْ قَالَ أَنَّهُ كُفْرٌ أَوْ حَرَامٌ فَهُوَ جَاهِلٌ فَإِنَّهُ عِلْمٌ عَقْلِيٌّ مَحْضٌ كَالْحِسَابِ، غَيْرَ أَنَّ الْحِسَابَ لَا يَجُرُّ إلَى فَسَادٍ وَلَيْسَ مُقَدِّمَةً لِعِلْمٍ آخَرَ فِيهِ مَفْسَدَةٌ، وَالْمَنْطِقُ مَنْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ وَلَمْ تُصِبْهُ سَابِقَةٌ صَحِيحَةٌ خُشِيَ عَلَيْهِ التَّزَنْدُقُ أَوْ التَّغَلْغُلُ بِاعْتِقَادٍ فَلْسَفِيٍّ مِنْ حَيْثُ يَشْعُرُ أَوْ لَا يَشْعُرُ، قَالَ: وَفَصْلُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّهُ كَالسَّيْفِ يُجَاهِدُ بِهِ شَخْصٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَيَقْطَعُ بِهِ آخَرُ الطَّرِيقَ ا.
هـ. بِتَأَمُّلِهِ تَجِدُهُ نَصًّا فِيمَا قَدَّمْته مِنْ أَنَّ الْمَنْطِقَ قِسْمَانِ: قِسْمٌ: مِنْهُ لَا يُخْشَى عَلَى الْمُشْتَغِل بِهِ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرَهُ، وَالْقِسْمُ الْآخَرُ: وَهُوَ الْمُدْرَجُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ الْعَقَائِدِ الْفَلْسَفِيَّةِ لَا يَجُوزُ الْخَوْضُ فِيهِ إلَّا لِمَنْ أَتْقَنَ مَا ذَكَرَهُ وَوَجَدَ شَيْخًا بِالصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا، فَهَذَا يَجُوزُ لَهُ الِاشْتِغَالُ حَتَّى بِهَذَا الْقِسْمِ لِأَنَّهُ يُؤْمَنُ عَلَيْهِ إذَا وُجِدَتْ فِيهِ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْمَيْلُ إلَى مَا فِيهِ مِنْ الشُّبَهِ الْفَاسِدَةِ، وَلَقَدْ اشْتَغَلَ بِهَذَا الْقِسْمِ كَثِيرٌ مِنْ فَحَوْلِ الْإِسْلَامِ حَتَّى أَحْكَمُوهُ وَتَمَكَّنُوا بِهِ مِنْ تَمَامِ الرَّدِّ عَلَى الْفَلَاسِفَةِ وَتَزْيِيفِ مَقَالَاتِهِمْ الْبَاطِلَةِ، وَتَأَمَّلْ تَجْهِيلَهُ لِمَنْ قَالَ: إنَّهُ حَرَامٌ يُعَرِّضُ بِذَلِكَ لِابْنِ الصَّلَاحِ، لَكِنْ إذَا حُمِلَ كَلَامُ ابْنِ الصَّلَاحِ عَلَى مَا قَدَّمْته اتَّجَهَ عَلَى أَنَّهُ بَانَ لَك مِنْ كَلَامِ السُّبْكِيّ أَنَّهُ يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِهَذَا النَّوْعِ أَيْضًا بِشَرْطِهِ السَّابِقِ.
(وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَلْ يَحْرُمُ إخْرَاجُ النَّجِسِ لِلْقِبْلَةِ كَالْقَيْءِ وَالْفَصْدِ؟ أَوْ هُوَ خَاصٌّ بِالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: هُوَ خَاصٌّ بِالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، فَشَرْطُ عَدَمِ السَّاتِرِ الشَّرْعِيِّ فِي غَيْرِ الْمَكَانِ الْمُعَدِّ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَأَمَّا الْفَصْدُ وَالْقَيْءُ وَنَحْوُهُمَا لِلْقِبْلَةِ فَلَا حُرْمَةَ فِيهَا، لِأَنَّ اسْتِقْذَارَهَا لَيْسَ كَاسْتِقْذَارِ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَمِنْ ثَمَّ أَبَاحُوا الْفَصْدَ فِي الْمَسْجِدِ فِي إنَاءٍ - إذَا أُمِنَ تَلْوِيثُهُ - وَلَمْ يُبِيحُوا الْبَوْلَ فِيهِ فِي إنَاءٍ - وَإِنْ أُمِنَ تَلْوِيثُهُ - وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ الْبَوْلَ أَقْذَرُ وَلِذَا عُفِيَ عَنْ قَلِيلِ الدَّمِ وَكَثِيرِهِ فِي صُوَرٍ وَلَمْ يُعْفَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الْبَوْلِ، وَالْغَائِطُ أَوْلَى مِنْهُ بِذَلِكَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute