للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَصْحَابُهُ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ كَلَامٍ طَوِيلٍ:

(وَبَعْضُ النَّاسِ يَعْتَقِدُ أَنَّ نَظَرَهُ فِي ذَلِكَ فَضِيلَةٌ، وَهُوَ عَيْنُ النُّقْصَانِ) وَقَالَ قَبْلَ ذَلِكَ احْتِجَاجًا عَلَى وُجُوبِ إعْدَامِهَا:

(إذَا دَخَلَتْ تَحْتَ أَيْدِينَا أَنَّهَا جَمَعَتْ شَيْئًا مِنْ كَلَامٍ بَاطِلٍ قَطْعًا، وَقَدْ اخْتَلَطَ بِمَا لَمْ يُبَدَّلْ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ فَوَجَبَ إعْدَامُ الْجَمِيعِ وَلَا يَتَوَقَّفُ فِي هَذَا إلَّا جَاهِلٌ اهـ. فَلْيُحْمَلْ مَا ذَكَرَهُ هُوَ وَالزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَلَى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ أَوْ مُتَمَكِّنٍ لَمْ يَقْصِدْ بِالنَّظَرِ فِيهَا مَصْلَحَةً دِينِيَّةً أَمَّا مُتَمَكِّنٌ قَصَدَ ذَلِكَ فَلَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ وَيَأْتِي مَا ذُكِرَ فِيهَا فِي الْإِنْجِيلِ، وَأَمَّا الِاشْتِغَالُ بِالْفَلْسَفَةِ وَالْمَنْطِقِ فَقَدْ أَفْتَى بِتَحْرِيمِهِ ابْنُ الصَّلَاحِ وَشَنَّعَ عَلَى الْمُشْتَغِلِ بِهِمَا وَأَطَالَ فِي ذَلِكَ، وَفِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ إخْرَاجُ أَهْلِهِمَا مِنْ مَدَارِسِ الْإِسْلَامِ وَسَجْنُهُمْ وَكِفَايَةُ شَرِّهِمْ قَالَ: وَإِنْ زَعَمَ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ لِعَقَائِدِهِمْ، فَإِنَّ يُكَذِّبُهُ، وَأَمَّا اسْتِعْمَالَاتُ الِاصْطِلَاحَاتِ الْمَنْطِقِيَّةِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَمِنْ الْمُنْكَرَاتِ الْمُسْتَشْنَعَةِ، وَلَيْسَ بِهَا افْتِقَارٌ إلَى الْمَنْطِقِ أَصْلًا، وَمَا يَزْعُمُهُ الْمَنْطِقِيُّ لِلْمَنْطِقِ مِنْ الْحَدِّ وَالْبُرْهَانِ فَقَعَاقِعُ قَدْ أَغْنَى اللَّهُ عَنْهَا كُلَّ صَحِيحِ الذِّهْنِ لَا سِيَّمَا مَنْ خَدَمَ نَظَرِيَّاتِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ هَذَا حَاصِلُ شَيْءٍ مِنْ كَلَامِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْفَلْسَفَةِ صَحِيحٌ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَمَا ذَكَرْته مِنْ تَحْرِيمِهَا هُوَ الصَّحِيحُ أَوْ الصَّوَابُ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ الشَّيْخُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي فَتَاوِيهِ، وَنُصُوصُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَاصَّةٌ عَلَى تَقْبِيحِ تَعَاطِيهِ، وَنُقِلَ عَنْهُ التَّعْزِيرُ عَلَى ذَلِكَ اهـ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَنْطِقِ فَمُعَارَضٌ بِقَوْلِ الْغَزَالِيِّ فِي مُقَدِّمَةِ الْمَنْطِقِ فِي أَوَّلِ الْمُسْتَصْفَى:

(هَذِهِ مُقَدِّمَةُ الْعُلُومِ كُلِّهَا وَمَنْ لَا يُحِيطُ بِهَا فَلَا ثِقَةَ لَهُ بِمَعْلُومِهِ أَصْلًا) . وَقَوْلُهُ فِي الْمُنْقِذِ مِنْ الضَّلَالِ.

(وَأَمَّا الْمَنْطِقِيَّاتُ فَلَا يَتَعَلَّقُ شَيْءٌ مِنْهَا فِي الدِّينِ نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا، بَلْ وَهُوَ نَظَرٌ فِي طُرُقِ الْأَدِلَّةِ وَالْمَقَايِيسِ وَشُرُوطِ مُقَدِّمَةِ الْبُرْهَانِ وَكَيْفِيَّةِ تَرْكِيبِهَا وَشُرُوطِ الْحَدِّ الصَّحِيحِ وَكَيْفِيَّةِ تَرْتِيبِهَا، وَإِنَّ الْعِلْمَ، إمَّا تَصَوُّرٌ وَسَبِيلُ مَعْرِفَتِهِ الْحَدُّ، وَإِمَّا تَصْدِيقٌ وَسَبِيلُ مَعْرِفَتِهِ الْبُرْهَانُ، وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْكَرَ فَإِنَّهُ مِنْ قَبِيلِ مَا يَتَمَسَّكُ بِهِ الْمُتَكَلِّمُونَ، وَأَهْلُ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ، وَإِنَّمَا يُفَارِقُونَهُمْ فِي الْعِبَارَاتِ وَالِاصْطِلَاحَاتِ، وَبِزِيَادَةِ الِاسْتِقْصَاءِ فِي التَّفْرِيعَاتِ وَالتَّشْعِيبَاتِ، وَمِثَالُ كَلَامِهِمْ فِيهِ: إذَا ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ حَيَوَانٌ لَزِمَ مِنْهُ أَنَّ بَعْضَ الْحَيَوَانِ إنْسَانٌ، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ ثَبَتَ أَنَّهُ إنْسَانٌ ثَبَتَ أَنَّهُ حَيَوَانٌ وَيُعَبِّرُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْمُوجَبَةَ الْكُلِّيَّةَ تَسْتَلْزِمُ مُوجَبَةً جُزْئِيَّةً، وَهَذَا حَقٌّ لَا شَكَّ فِيهِ فَكَيْفَ يَنْبَغِي أَنْ يُجْحَدَ وَيُنْكَرَ؟ عَلَى أَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمُهِمَّاتِ الدِّينِ ثُمَّ مَتَى أُنْكِرَ مِثْلُ هَذَا لَزِمَ مِنْهُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَنْطِقِ سُوءُ الِاعْتِقَادِ فِي عَقْلِ الْمُنْكِرِ بَلْ فِي دِينِهِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّ فِيهِ إبْطَالُ مِثْلِ هَذَا) اهـ. فَتَأَمَّلْهُ تَأَمُّلًا خَالِيًا عَنْ التَّعَصُّبِ تَجِدْهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَدْ أَوْضَحَ الْمَحَجَّةَ وَأَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا يُنْكَرُ وَلَا مِمَّا يَجُرُّ إلَى مَا يُنْكَرُ، وَعَلَى أَنَّهُ يَنْفَعُ فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ كَأُصُولِ الدِّينِ وَالْفِقْهِ، وَقَدْ أَطْلَقَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ مَا يَنْفَعُ فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ مُحْتَرَمٌ يَحْرُمُ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ، وَيَجِبُ تَعَلُّمُهُ وَتَعْلِيمُهُ عَلَى الْكِفَايَةِ كَالطِّبِّ وَالنَّحْوِ وَالْحِسَابِ وَالْعَرُوضِ ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ كَالْإِسْنَوِيِّ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَطْرَيْنِ:

(إنَّ الْمَنْطِقَ غَيْرُ مُحْتَرَمٍ فَعَلِمْنَا أَنَّ مُرَادَهُ الْمَنْطِقُ الَّذِي لَا يَنْفَعُ فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ الَّذِي يَعُودُ مِنْهُ ضَرَرٌ عَلَى الدِّينِ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ مَنْطِقِ الْفَلَاسِفَةِ الْأُوَلِ يَبْحَثُونَ فِيهِ عَنْ نَحْوِ مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ ثُمَّ يُدْرِجُونَ فِيهِ الْبَحْثَ عَنْ حَالِ الْمَوْجُودَاتِ وَكَيْفِيَّةِ تَرَاكِيبِهَا وَمَفَاهِيمِهَا وَأَعْرَاضِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُخَالِفُونَ فِيهِ عُلَمَاءَ الْإِسْلَامِ حَتَّى انْتَصَبُوا لَهُمْ، وَرَدُّوا جَمِيعَ مَقَالَاتِهِمْ الْفَظِيعَةِ الشَّنِيعَةِ، فَمِثْلُ هَذَا الْفَنِّ مِنْ الْمَنْطِقِ هُوَ الَّذِي يَحْرُمُ الِاشْتِغَالُ بِهِ.

وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ كَلَامُ ابْنِ الصَّلَاحِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ فِيمَا مَرَّ عَنْهُ: (كِفَايَةُ شَرِّهِمْ) ، وَقَوْلُهُ: (وَإِنْ زَعَمَ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ لِعَقَائِدِهِمْ فَإِنَّ يُكَذِّبُهُ) فَعَلِمْنَا أَنَّ كَلَامَهُ فِي مَنْطِقٍ لَهُ شَرٌّ وَلَهُ أَهْلٌ يَعْتَقِدُونَ خِلَافَ عَقَائِدِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ النَّوْعُ الَّذِي ذَكَرْته لَا غَيْرَ، وَأَمَّا الْمَنْطِقُ الْمُتَعَارَفُ الْآنَ بَيْنَ أَيْدِي أَكَابِرِ عُلَمَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ فَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا يُنْكَرُ وَلَا شَيْءٌ مِنْ عَقَائِدِ الْمُتَفَلْسِفِينَ، بَلْ هُوَ عِلْمٌ نَظَرِيٌّ يَحْتَاجُ لِمَزِيدِ رِيَاضَةٍ وَتَأَمُّلٍ يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى التَّحَرُّزِ عَنْ الْخَطَإِ فِي الْفِكْرِ مَا أَمْكَنَ فَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يُنْكِرَ ذَلِكَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَلَا أَدْوَنَ مِنْهُ وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّشْنِيعُ عَلَيْهِ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ؛ لِأَنَّهُمْ جَهِلُوهُ فَعَادَوْهُ كَمَا قِيلَ:

(مَنْ جَهِلَ شَيْئًا عَادَاهُ) وَكَفَى بِهِ نَافِعًا فِي الدِّينِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُرَدَّ شُبْهَةٌ مِنْ شُبَهِ الْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْفَرْقِ إلَّا بِمُرَاعَاتِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>