للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَلَى خَوَاصِّ عِبَادِهِ وَهُدَاةِ بِلَادِهِ جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْ عِدَادِهِمْ الْمُسْتَمْسِكِينَ بِآثَارِهِمْ فِي إيرَادِهِمْ وَإِصْدَارِهِمْ فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَأَلَّفَ تَأْلِيفًا عَلَى وَفْقِ إفْتَائِهِ لَكِنْ فِيهِ زِيَادَةُ قَيْدٍ كَمَا سَتَعْلَمُهُ وَفِيهِ أَيْضًا إشَارَةٌ إلَى أَبْلَغِ الرَّدِّ عَلَى مَنْ خَالَفَ بِأَنَّهُ جَامِدٌ مُتَعَسِّفٌ وَبِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ هُوَ الصَّوَابُ وَمَا عَدَاهُ هُوَ الْخَطَأُ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ فَلَمَّا رَأَيْنَا ذَلِكَ التَّأْلِيفَ مَا ازْدَدْنَا إلَّا إنْكَارًا رَجَاءَ أَنْ نَنْتَظِمَ فِي سِلْكِ الرَّاجِينَ لِلَّهِ وَقَارًا وَهَذَا أَعْنِي عَدَمَ الْمُحَابَاةِ فِي الدِّينِ حَتَّى لِأَكَابِرِ الْمُجْتَهِدِينَ هُوَ دَأْبُ سَادَاتِنَا الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ كَمَا يَعْلَمُهُ مَنْ وَقَفَ عَلَى النِّهَايَةِ وَأَحَاطَ بِقَوْلِهَا.

هَذِهِ زَلَّةٌ مِنْ الشَّيْخِ مَعَ بُلُوغِهِ فِي الِاجْتِهَادِ وَالْوِلَايَةِ الْغَايَةَ حَتَّى قِيلَ فِي تَرْجَمَتِهِ لَوْ جَازَ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا فِي زَمَنِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ لَكَانَ هُوَ ذَلِكَ النَّبِيَّ وَمِنْ هُنَا قَالَ بَعْضُ أَكَابِرِ أَئِمَّتِنَا إنَّ عَدَمَ مُحَابَاةِ الْعُلَمَاءِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ مِنْ أَعْظَمِ مَزَايَا هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي أَعْظَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِمْ النِّعْمَةَ حَيْثُ حَفِظَهُمْ عَنْ وَصْمَةِ مُحَابَاةِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى تَحْرِيفِ مَا فِيهِمَا وَانْدِرَاسِ تَيْنِكَ الْمِلَّتَيْنِ فَلَمْ يَتْرُكُوا لِقَائِلٍ قَوْلًا فِيهِ أَدْنَيْ دَخَلٍ إلَّا بَيَّنُوهُ وَلَا لِفَاعِلٍ فِعْلًا فِيهِ تَحْرِيفٌ إلَّا قَوَّمُوهُ حَتَّى اتَّضَحَتْ الْآرَاءُ وَانْعَدَمَتْ الْأَهْوَاءُ وَدَامَتْ الشَّرِيعَةُ الْوَاضِحَةُ الْبَيْضَاءُ عَلَى امْتِلَاءِ الْآفَاقِ بِأَضْوَائِهَا وَشِفَاءِ الْقُلُوبِ بِهَا مِنْ أَدْوَائِهَا مَأْمُونَةً مِنْ كَيَدِ الْحَاسِدِينَ وَسَفَهِ الْمُلْحِدِينَ فَضَرَاعَةً إلَيْك اللَّهُمَّ أَنْ تُدِيمَ لَهَا ذَلِكَ عَلَى تَوَالِي الْأَعْصَارِ وَأَنْ تُؤَيِّدَ أَهْلهَا بِدَوَامِ الْجَلَالَةِ الْبَاهِرَةِ وَالْحِفْظِ مِنْ الْأَغْيَارِ إنَّك الْجَوَادُ الْكَرِيمُ الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ وَإِذْ قَدْ تَمَهَّدَ هَذَا الْقَدْرُ الْوَاضِحُ لِلتَّفَصِّي عَنْ هَذَا الْحُكْمِ اللَّائِحِ عُلِمَ أَنْ لَا عُذْرَ فِي السُّكُوتِ عَنْ الْكَلَامِ فِيهِ وَبَيَانِ مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي قَوَادِمِهِ وَخَوَافِيهِ فَحِينَئِذٍ سَنَحَ لِي أَنْ أَكْتُبَ فِي ذَلِكَ مَا أَعْتَقِدُ أَنَّهُ الصَّوَابُ الْوَاجِبُ بَيَانُهُ وَالْحَقُّ الصُّرَاحُ مِنْ حَيْثُ النَّقْلُ الْوَاضِحُ بُرْهَانُهُ فَشَرَعْت فِي ذَلِكَ مُلَقِّبًا لَهُ (بِقُرَّةِ الْعَيْنِ بِبَيَانِ أَنَّ التَّبَرُّعَ لَا يُبْطِلُهُ الدَّيْنُ) بِعَوْنِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ سَائِلًا مِنْ فَيْضِ فَضْلِهِ الْوَاسِعِ الْهِدَايَةَ إلَى سَوَاءِ الْحَقِّ وَطَرِيقِهِ لَا إلَهَ غَيْرُهُ وَلَا مَأْمُولَ إلَّا بِرُّهُ وَخَيْرُهُ وَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَإِلَيْهِ الْفَزَعُ فِي الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ.

فَقُلْت اعْلَمْ أَنَّ الِاعْتِرَاضَ عَلَى كَامِلٍ بِرَدِّ شَاذَّةٍ وَقَعَتْ لَهُ لَا يَقْدَحُ فِي كَمَالِهِ وَلَا يُؤْذِنُ بِالِاسْتِهْتَارِ بِوَاجِبِ رِعَايَةِ حَقِّهِ وَأَفْضَالِهِ إذْ السَّعِيدُ مَنْ عُدَّتْ غَلَطَاتُهُ وَلَمْ تَكْثُرْ فَرَطَاتُهُ وَزَلَّاتُهُ وَكُلُّنَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ وَمَرْدُودٌ عَلَيْهِ إلَّا الْمَعْصُومِينَ وَلَيْسَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ مُؤَدِّيًا لِحِقْدٍ بَلْ لَمْ يَزَالُوا مِنْ ذَلِكَ مُبَرَّئِينَ وَاعْلَمْ أَيْضًا أَنَّهُ لَا بُدَّ قَبْلَ الْخَوْضِ فِي ذَلِكَ مِنْ حِكَايَةِ ذَلِكَ الْإِفْتَاءِ لِيُعْلَمَ مَا الْكَلَامُ فِيهِ وَهُوَ مَا قَوْلُكُمْ فِي جَمَاعَةٍ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَسْتَلِفُونَ أَمْوَالَهُمْ فَيُطَالِبُهُمْ أَهْلُ الدُّيُونِ فَيُبَادِرُونَ وَيَمْلِكُونَ أَمْوَالَهُمْ وَيُعْتِقُونَ أَرِقَّاءَهُمْ حِيلَةً لِئَلَّا يَحْصُلَ لِأَهْلِ الدُّيُونِ شَيْءٌ فَهَلْ يَصِحُّ تَمْلِيكُهُمْ وَعِتْقُهُمْ؟ الْجَوَابُ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ «مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّاهَا اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى» قَالَ شَارِحُهُ ظَاهِرُهُ أَنَّ الْإِتْلَافَ يَقَعُ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَذَلِكَ فِي مَعَاشِهِ أَوْ فِي نَفْسِهِ وَهُوَ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ لِمَا تَرَاهُ بِالْمُشَاهَدَةِ مِمَّنْ تَعَاطَى شَيْئًا مِنْ الْأَمْرَيْنِ وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْإِتْلَافِ عَذَابُ الْآخِرَةِ اهـ.

وَقَدْ ارْتَكَبَ الْجَمَاعَةُ الْمَذْكُورُونَ مَا لَا يَرْضَاهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَلَا يَجُوزُ تَقْرِيرُهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَصِحُّ تَمْلِيكُهُمْ وَلَا عِتْقُهُمْ وَلَا وَقْفُهُمْ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَتَبِعَهُ الْعَلَّامَةُ تَقِيُّ الدِّينِ الْفَتَى وَأَفْتَى بِهِ شَيْخُنَا الطَّنْبَدَاوِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ مَا وَقَعَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ فَهُوَ مَفْرُوضٌ فِي غَيْرِ صُورَةِ السُّؤَالِ عَلَى أَنَّ مَا فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ مَنْظُورٌ فِيهِ وَقَدْ بَيَّنْت ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا السُّؤَالِ أَمَّا صُورَةُ السُّؤَالِ فَلَا يُخَالِف فِيهَا أَحَدٌ فَإِنَّهَا مَفْرُوضَةٌ فِي صُدُورِ ذَلِكَ مِنْهُمْ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ لَهُمْ بِالدَّيْنِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ إذَا أُخِذَتْ الْأَمْوَالُ بِغَيْرِ حَقِّهَا وَصُرِفَتْ إلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهَا أَوْ أُخِذَتْ بِحَقِّهَا وَصُرِفَتْ إلَى مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا وَجَبَ ضَمَانُهَا عَلَى صَارِفِهَا وَآخِذِهَا سَوَاءٌ عَلِمَا أَمْ جَهِلَا فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ وَلَا تَبَرُّعُهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَلَا مَا أَوْصَى بِهِ مِنْ التَّبَرُّعَاتِ وَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُ وَرَثَتِهِ فِي تَرِكَتِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>