للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

صَغِيرٍ بِقَدْرِ مَا يَخْرُج مِنْهُ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ وَفِيهَا أَيْضًا أَنَّهُ لَمْ يَسُدَّ مَا سَدَّ وَلَمْ يَفْتَحْ مَا فَتَحَ إلَّا بِأَمْرٍ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ فِي آخِرِ مَجْلِسٍ جَلَسَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَا عَهِدَهُ لِأَمَتِهِ وَمَاتَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَنْسَخْهُ شَيْءٌ فَوَجَبَ اسْتِمْرَارُ حُرْمَتِهِ وَأَنَّهُ لَا رَأْيَ لِلْإِمَامِ فِيهِ لِنَصِّهِ عَلَى مَنْعِهِ، وَإِسْنَادُهُ ذَلِكَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا إلَيْهِ وَلَا نَظَرَ لِتَغْيِيرِ مَعَالِمِ الْمَسْجِدِ وَجُدُرِهِ وَالزِّيَادَةِ فِيهِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْفَتْحِ مَنُوطَةٌ بِالْمَسْجِدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ لَا بِتِلْكَ الْجُدُرِ بِعَيْنِهَا وَمِنْ ثَمَّ وُسِّعَ مَرَّاتٍ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ عَلَى فَتْحِ شَيْءٍ فِيهِ

قَالَ الْحَافِظُ السُّيُوطِيّ بَعْدَ ذِكْرِهِ نَحْوَ مَا مَرَّ: أَكْثَرُ مُفْتِيِّ عَصْرِنَا أَفْتَوْا بِجَوَازِ فَتْحِ الْبَابِ وَالْكُوَّةِ وَالشُّبَّاكِ مِنْ دَارٍ بُنِيَتْ مُلَاصِقَةً لِلْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ اسْتِرْوَاحًا وَعَدَمَ وُقُوفٍ عَلَى مَجْمُوعِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ ثُمَّ رُوجِعَ كُلٌّ مِنْهُمْ فِي مُسْتَنَدِهِ فِيمَا أُفْتِيَ بِهِ فَأَبْدَوْا شُبَهًا كُلُّهَا مَرْدُودَةٌ، مِنْهَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: لَا نَقْلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَهْلِ مَذْهَبِنَا، وَنَقُولُ بِالْجَوَازِ اسْتِحْسَانًا حَيْثُ لَا ضَرَرَ، وَجَوَابُهُ: لَا اسْتِحْسَانَ يُعْتَدُّ بِهِ مَعَ النُّصُوصِ النَّبَوِيَّةِ الْمُصَرِّحَةِ بِالْمَنْعِ.

وَإِذَا مُنِعَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ فَتْحِ كُوَّةٍ يَنْظُرُ مِنْهَا حِينَ يَخْرُجُ لِلصَّلَاةِ فَكَيْفَ يَنْهَدِمُ الْحَائِطُ كُلُّهُ؟ بَلْ أَقُولُ: لَوْ أُعِيدَ حَائِطُ الْمَسْجِدِ وَبُنِيَ خَلْفَهُ جِدَارٌ أَطْوَلُ مِنْهُ، وَفُتِحَ فِي أَعْلَاهُ كُوَّةٌ يُطَّلَعُ مِنْهَا إلَى الْمَسْجِدِ فَيَنْبَغِي الْمَنْعُ احْتِيَاطًا.

فَإِنْ انْضَمَّ لِذَلِكَ أَنَّ الشَّبَابِيكَ تَصِيرُ مُعَدَّةً لِمَنْ يَجْلِسُ فِيهَا مُرْتَفِعًا وَالْقَبْرُ الشَّرِيفُ تَحْته فَهَذَا أَشَدُّ وَأَشَدُّ، وَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُتَحَرِّكٍ الِاحْتِيَاطُ لِدِينِهِ حَيْثُ عَلِمَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَأَنَّهُ لَا رَأْيَ لِأَحَدٍ فِيهِ بَعْدَ نَصِّهِ، وَأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ وَإِفْتَاءَ الْمُفْتِي بِمَا يُخَالِفُ النَّصَّ يُرَدُّ، وَالتَّوَصُّلُ إلَى خِلَافَةِ بِالْحِيَلِ الْفَاسِدَةِ كَجَعْلِهِ فِي غَيْرِ جِدَارِ الْمَسْجِدِ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِأَدْنَى الْحِيَلِ» ، وَمِنْهَا الْقِيَاسُ عَلَى سَائِرِ الْمَسَاجِدِ حَيْثُ رَأَى النَّاظِرُ ذَلِكَ وَيُرَدُّ بِأَنَّهُ لَا قِيَاسَ مَعَ النَّصِّ، فَقَدْ دَلَّتْ الْأَحَادِيثُ عَلَى تَمْيِيزِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ بِذَلِكَ، وَمِنْهَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: الْأَمْرُ مَنُوطٌ فِي ذَلِكَ بِرَأْيِ الْإِمَامِ. وَجَوَابُهُ لَا رَأْيَ لِأَحَدٍ مَعَ النَّصِّ وَمِنْهَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: تِلْكَ الْأَحَادِيثُ الْمَانِعَةُ مَخْصُوصَةٌ بِزَمَنِهِ وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدِهَا أَنَّهُ لَا دَلِيلَ لِهَذَا التَّخْصِيصِ، ثَانِيهَا أَنَّ الْقِصَّةَ أَمَرَ بِهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا أَوَاخِرُ حَيَاتِهِ إذْ لَمْ يَعِشْ بَعْدَهَا إلَّا دُونَ عَشْرَةِ أَيَّامٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ شَرْعٌ مُسْتَمِرٌّ بَعْدَ وَفَاتِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثَالِثِهَا لَوْ كَانَ التَّخْصِيصُ مُرَادَ الْبَيِّنَةِ وَإِلَّا كَانَ مُؤَخَّرًا لِلْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا سِيَّمَا وَهِيَ آخِرُ جَلْسَةٍ جَلَسَهَا لِلنَّاسِ، رَابِعِهَا اسْتِمْرَارُ الصَّحَابَةِ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ فَهِمُوهُ شَرْعًا مُؤَبَّدًا، خَامِسِهَا يُقَالُ لِزَاعِمِ التَّخْصِيصِ مَا وَجْهُ مَنْعِ الصَّحَابَةِ فِي زَمَنِهِ وَالْإِذْنُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ وَالصَّحَابَةُ أَجَلُّ وَأَحَقُّ بِكُلِّ خَيْرٍ، وَهَلْ يَتَخَيَّلُ مُتَخَيِّلٌ أَنَّهُ يُرَخَّصُ لِأَهْلِ الْقَرْنِ الْأَرْذَلِ مَا مُنِعَ مِنْهُ أَشْرَفُ الْأُمَّةِ وَخِيَارُهُمْ؟ مَعَاذَ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْهَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: الْمَنْعُ مَخْصُوصٌ بِجِدَارِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا هُدِمَ وَأُعِيدَ غَيْرُهُ كَانَ مِلْكًا لِلْمُعِيدِ فَيَفْتَحُ مِنْهُ مَا شَاءَ وَلَا يَصِيرُ وَقْفًا حَتَّى يُوقِفَهُ، وَهَذَا مَرْدُودٌ بِوُجُوهٍ:

الْأَوَّلِ أَنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِخُصُوصِ الْجِدَارِ كَمَا فَهِمَ هَذَا الْقَائِلُ بَلْ بِعُمُومِ الْمَسْجِدِ وَقَصْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ، أَنْ لَا يَتَطَرَّقَ لِمَسْجِدِهِ مِنْ بَابِ دَارٍ تُلَاصِقُهُ وَلَا يُطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ كُوَّةٍ فِي دَارٍ تُلَاصِقُهُ، وَالْمُعَادُ يَقُومُ مَقَامَ الْأَوَّلِ فِي هَذَا الْحُكْمِ.

الثَّانِي أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ يُشْعِرُ بِالْعَلِيَّةِ.

وَقَدْ قَالَ: «اُنْظُرُوا هَذِهِ الْأَبْوَابَ الشَّوَارِعَ إلَى الْمَسْجِدِ فَسُدُّوهَا» فَرَتَّبَ الْأَمْرَ بِالسَّدِّ عَلَى وَصْفِ كَوْنِهَا شَوَارِعَ إلَى الْمَسْجِدِ، وَإِنْ فُتِحَتْ فِي غَيْرِ جِدَارِهِ وَمِنْ ثَمَّ لَمَّا هَدَمَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ جِدَارَهُ وَأَعَادَاهُ لَمْ يَفْتَحَا فِيهِ شَيْئًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ فَهِمُوا تَعَلُّقَ الْحُكْمِ بِالْمَسْجِدِ لَا بِالْجِدَارِ وَإِلَّا لَفَتَحُوا لَهُمْ أَبْوَابًا وَكُوَّاتٍ نَظَرًا إلَى أَنَّ الْجِدَارَ مِلْكُ بَانِيهِ وَحَاشَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ، أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّارُ «أَنَّ عُمَرَ قَالَ: لَوْلَا أَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: يَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ فِي مَسْجِدِنَا هَذَا مَا زِدْت فِيهِ.» .

الرَّابِعِ: إنْ زَعَمَ أَنَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>