للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْوَقْفِ الْأَوَّلِ مِنْ لُزُومِ أُجْرَتِهَا لِمُصَرِّفِهِ؛ لِأَنَّ وَقْفَهَا عَلَى غَيْرِ مُصَرِّفِهِ بَاطِلٌ عَلَى مَا اخْتَارَهُ، وَإِذَا كَانَ بَاطِلًا لَزِمَ بَقَاءُ الْعِمَارَةِ عَلَى حُكْمِهَا الْأَوَّلِ مِنْ أَنَّ مَالِكَهَا يَغْرَمُ أُجْرَةَ مَحِلِّهَا لِمُصَرِّفِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَبْعُدُ كُلَّ الْبُعْدِ أَنَّ مِثْل الْبَغَوِيِّ يَقُولُ بِأَنَّ مَنْ اسْتَأْجَرَ عَرْصَةً مَوْقُوفَةً لِلْبِنَاءِ فِيهَا أَنَّ بِنَاءَهُ يَصِيرُ وَقْفًا قَهْرًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنَافِي وَضْعَ الْإِجَارَةِ؛ وَلِأَنَّ الْأَئِمَّةَ مُطْبِقُونَ عَلَى خِلَافِهِ كَمَا يُعْلَمُ مَنْ بَابَيْ الْإِجَارَةِ وَالْوَقْفِ.

وَقَدْ ذَكَرْتُ آنِفًا مَا هُوَ صَرِيحٌ فِيهِ بِقَوْلِي: وَالْمَنْقُولُ الْمُعْتَمَدُ إلَخْ فَإِنْ قُلْت: إذَا أَرَادَ النَّاظِرُ أَنْ يَتَمَلَّكَ لِلْوَقْفِ آلَاتِ الْمُسْتَأْجِرِ الْمُخْتَلِطَةَ بِآلَاتِ الْوَقْفِ الَّتِي يُمْكِنُ تَمْيِيزُهَا فَلِمَ لَمْ يَجِبْ لِذَلِكَ؟ قُلْت: الْمُصَرَّحُ بِهِ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ أَنَّ تَخْيِيرَ الْمُؤَجِّرِ بَيْن التَّمَلُّكِ وَالْقَلْعِ مَجَّانًا وَالتَّبْقِيَةِ بِالْأُجْرَةِ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ عَدَمِ اخْتِيَارِ الْمُسْتَأْجِرِ الْقَلْعَ، أَمَّا إذَا اخْتَارَهُ فَإِنَّهُ يَقْلَعُ وَعَلَيْهِ الْأَرْشُ وَالتَّسْوِيَةُ لِلْأَرْضِ وَلَا يُجَابُ الْمُؤَجِّرُ إلَى وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الْخِصَالِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْأَرْضُ الْوَقْفُ وَالْمِلْكُ. (فَائِدَةٌ) لَوْ أَرَادَ النَّاظِرُ بَعْدَ الْمُدَّةِ الْقَلْعَ وَغَرِمَ الْأَرْشَ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ وَلَمْ يَقْتَضِهِ شَرْطُ الْوَاقِفِ لَمْ يَجُزْ وَكَذَا لَوْ أَرَادَ لِلْإِبْقَاءِ وَكَانَ يَتَغَيَّرُ بِهِ مَقْصُودُ الْوَقْفِ مِنْ بَقَاءِ الْأَرْضِ مَكْشُوفَةً فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ أَيْضًا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) عَنْ أَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ الصَّحَابَةَ بِسَدِّ أَبْوَابِهِمْ النَّافِذَةِ إلَى مَسْجِدِهِ إلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَنْ رَوَاهُ وَمَا حُكْمُ ذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ؟

(فَأَجَابَ: رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا بَلْ بَلَغَتْ طُرُقُهُ حَدَّ التَّوَاتُرِ كَمَا بَيَّنَهُ الْحَافِظُ السُّيُوطِيّ شَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى سَعْيَهُ وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ وَسَنَدُهَا حَسَنٌ «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا بَكَى إذْ سَمِعَ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ إلَخْ قَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَلَى رِسْلِك أَفْضَلُ النَّاسِ عِنْدِي فِي الصُّحْبَةِ وَذَاتِ الْيَدِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ، اُنْظُرُوا هَذِهِ الْأَبْوَابَ الشَّوَارِعَ فِي الْمَسْجِدِ فَسُدُّوهَا إلَّا مَا كَانَ مِنْ بَابِ أَبِي بَكْرٍ فَإِنِّي رَأَيْت عَلَيْهِ نُورًا.

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى رِجَالُهَا ثِقَاتٌ اُنْظُرُوا إلَى هَذِهِ الْأَبْوَابِ اللَّاصِقَةِ فِي الْمَسْجِدِ فَسُدُّوهَا إلَّا مَا كَانَ مِنْ بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا كَانَ أَفْضَلَ عِنْدِي فِي الصُّحْبَةِ مِنْهُ.» قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَلَا يُعَارِضُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الْأُخْرَى الْكَثِيرَةُ الْمُتَوَاتِرَةُ أَيْضًا الْمُصَرِّحَةُ بِسَدِّ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا حَتَّى بَابِ أَبِي بَكْرٍ إلَّا بَابَ عَلِيٍّ؛ لِأَنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ فَقَضِيَّةُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً وَهِيَ فِي سَدِّ الْأَبْوَابِ الشَّارِعَةِ، وَقَدْ كَانَ أَذِنَ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يَمُرَّ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ جُنُبٌ.

وَيَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِهَا رِوَايَةُ الْبَزَّارِ «عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: انْطَلِقْ فَمُرْهُمْ أَنْ يَسُدُّوا أَبْوَابَهُمْ فَانْطَلَقْت فَقُلْت لَهُمْ فَفَعَلُوا إلَّا حَمْزَةَ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ فَعَلُوا إلَّا حَمْزَةَ فَقَالَ: قُلْ لِحَمْزَةَ فَلْيُحَوِّلْ بَابَهُ فَقُلْت: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُك أَنْ تُحَوِّلَ بَابَك فَحَوَّلَهُ.» فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ وَاقِعَةَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَتْ قَبْلَ أُحُدٍ وَقَضِيَّةَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُتَأَخِّرَةٌ فِي مَرَضِ الْوَفَاةِ فِي سَدِّ طَاقَاتٍ كَانُوا يَسْتَقْرِبُونَ الدُّخُولَ مِنْهَا وَهِيَ الْخَوْخُ وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: قَضِيَّةُ عَلِيٍّ فِي سَدِّ الْأَبْوَابِ، وَأَمَّا سَدُّ الْخَوْخِ فَالْمُرَادُ بِهَا طَاقَاتٌ كَانَتْ فِي الْمَسْجِدِ يَسْتَقْرِبُونَ الدُّخُولَ مِنْهَا فَأَمَرَ بِسَدِّهَا إلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَفِي ذَلِكَ أَشَارَّة إلَى اسْتِخْلَافِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّ الْخَلِيفَةَ يَحْتَاجُ إلَى الْمَسْجِدِ كَثِيرًا.

وَعُلِمَ مِنْ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بَلْ الْمُتَوَاتِرَةِ كَمَا مَرَّ أَنَّهُ مَنَعَ مِنْ فَتْحِ بَابِ شَارِعٍ إلَى مَسْجِدِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ فِي ذَلِكَ لِأَحَدٍ حَتَّى لِأَبِي بَكْرٍ وَالْعَبَّاسِ إلَّا لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِمَكَانِ ابْنَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ وَمِنْ فَتْحِ خَوْخَةٍ صَغِيرَةٍ أَوْ طَاقَةٍ أَوْ كُوَّةٍ وَلَمْ يَأْذَنْ فِي ذَلِكَ لِأَحَدٍ حَتَّى لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَّا لِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَاصَّةً لِمَكَانِ الْخِلَافَةِ وَلِكَوْنِهِ أَفْضَلَ النَّاسِ يَدًا عِنْدَهُ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي الْأَحَادِيثِ وَهَذِهِ خِصِّيصَةٌ لَهُ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ أَحَدٍ عَلَيْهِ فِيهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْتَأْذَنَ فِي كَوَّةٍ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ وَالْعَبَّاسَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي فَتْحِ بَابٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>