للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عَبَّرَ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ وَمُرَادُهُ بِذَلِكَ حِيَازَتُهُ فِيهِ كَمَا عَبَّرَ بِهِ بَعْضُهُمْ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ أَدْخَلَ كُوزًا فِي مَاءٍ مُبَاحٍ فَمَلَأَهُ مِنْهُ مَلَكَ مَا حَوَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَرْفَعْ الْكُوزَ مِنْ الْمَاءِ، بَلْ أَبْقَاهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ هَذَا حِيَازَةٌ لَا أَخْذٌ إذْ هِيَ الِاحْتِوَاءُ عَلَى الشَّيْءِ، وَإِنْ لَمْ يَنْقُلْهُ فَهِيَ أَعَمُّ مُطْلَقًا، وَأَمَّا جَعْلُهُ فِي حَوْضٍ مَسْدُودِ الْمَنَافِذِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحَوْضِ خُصُوصَهُ كَمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ عِبَارَةِ الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا.

وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ مَا صَرَّحَ بِهِ غَيْرُهُمَا كَالْقَمُولِيِّ وَالْأَذْرَعِيِّ وَالزَّرْكَشِيِّ وَآخَرِينَ مِمَّا يَشْمَلُ الْبِرْكَةَ وَالصِّهْرِيجَ وَالْحُفْرَةَ فِي أَرْضِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ فَالْمُرَادُ بِجَعْلِهِ فِي ذَلِكَ وَسَوْقِهِ إلَيْهِ وَاحِدٌ وَهُوَ حُصُولُ الْمَاءِ فِي وَاحِدٍ مِمَّا ذُكِّرَ بِفِعْلِهِ كَأَنْ يَفْتَحَ سَدًّا بَيْنَ نَحْوِ الْحَوْضِ وَالْمَاءِ الْمُبَاحِ فَيَدْخُلُ فِيهِ وَخَرَجَ بِالسَّبَبِ الْقَوِيِّ السَّبَبُ الضَّعِيفُ فَإِنَّهُ لَا يَقْتَضِي مِلْكَ الْمَاءِ لِمَا تَقَرَّرَ، وَإِنَّمَا غَايَةُ مَا يَقْتَضِيه كَوْنُ الْمُتَسَبَّبِ بِهِ أَحَقُّ بِمَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ مِنْ الْمَاءِ وَذَلِكَ السَّبَبُ الضَّعِيفُ، إمَّا مُجَرَّدُ دُخُولِ الْمَاءِ مِلْكَ إنْسَانٍ لَا بِفِعْلِهِ وَلَا بِمَا يَقُومُ مَقَامَ فِعْلِهِ، بَلْ بِسَيْلٍ وَنَحْوِهِ، وَأَمَّا دُخُولُهُ فِي مِلْكِهِ بِفِعْلِهِ الَّذِي لَا يَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ لِضَعْفِهِ كَأَنْ يَحْفِرَ نَهْرًا يَدْخُلُ فِيهِ الْمَاءُ مِنْ الْوَادِي الْعَظِيمِ أَوْ مِنْ النَّهْرِ الْمُنْخَرِقِ مِنْهُ فَالْمَاءُ بَاقٍ عَلَى إبَاحَتِهِ، لَكِنَّ مَالِكَ النَّهْرِ أَحَقُّ بِهِ كَالسَّيْلِ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ، وَإِنَّمَا جَعَلُوا فِعْلَهُ هُنَا وَهُوَ الْحَفْرُ لَا يَقْتَضِي مِلْكًا بِخِلَافِهِ فِيمَا مَرَّ فِي صُورَةِ الْحَوْضِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ مُطَّرِدَةٌ بِأَنْ يُقْصَدَ بِحَفْرِهَا فِي الْعَادَةِ الِانْتِفَاعُ بِمَائِهَا فِي سَقْيِ الْمَزَارِعِ وَنَحْوِهَا فَلِذَلِكَ جَعَلُوهُ سَبَبًا فِي كَوْنِهِ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ وَلِكَوْنِ هَذَا الِاسْتِحْقَاقُ لَا يُخْرِجُ الْمَاءَ عَنْ أَصْلِهِ مِنْ الْإِبَاحَةِ اكْتَفَى فِيهِ بِالسَّبَبِ الضَّعِيفِ وَهُوَ مُجَرَّدُ دُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ بِخِلَافِ مِلْكِهِ فَإِنَّهُ يُنَافِي أَصْلَهُ الْمَذْكُورَ فَاحْتِيجَ فِيهِ إلَى سَبَبٍ قَوِيٍّ.

وَهُوَ حِيَازَتُهُ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ إدْخَالِهِ مَحِلًّا يَقْصِدُ فِي الْعَادَةِ بِحِيَازَتِهِ فِيهِ مِلْكَهُ وَالتَّصَرُّفَ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ كَالْحَوْضِ وَالصِّهْرِيجِ، فَبَانَ بِهَذَا الَّذِي قَرَّرْته فَرْقَانِ مَا بَيْنَ إدْخَالِهِ لِنَحْوِ الْحَوْضِ، فَإِنَّهُ يَمْلِكُ بِهِ وَإِدْخَالِهِ لِنَحْوِ النَّهْرِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ كَلَامُ الْأَذْرَعِيِّ الْآتِي عَلَى الْإِثْرِ وَبَانَ بِهِ أَيْضًا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ الْأَذْرَعِيِّ فِي تَوَسُّطِهِ، وَكُنْت أَوَدُّ لَوْ قِيلَ: إنْ أَجْرَى حَافِرُ النَّهْرِ أَوْ الْقَنَاةِ الْمَاءَ فِيمَا حَفَرَهُ مِنْهَا مَلَكَهُ كَمَا لَوْ حَازَهُ فِي إنَائِهِ، وَوَجْهُ الْجَوَابِ عَنْهُ مَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ إجْرَاءَهُ فِي نَحْوِ النَّهْرِ لَا يَقْصِدُ بِهِ تَمَلُّكَهُ عَادَةً بِخِلَافِ حَوْزِهِ فِي إنَاءٍ وَنَحْوِهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعْتَبَرْ الْقَصْدُ فِي الْإِجْرَاءِ إلَى نَحْوِ النَّهْرِ، وَاعْتَبَرُوهُ فِي مَسْأَلَةِ الْأَرْضِ لِتَوَحُّلِ الصَّيْدِ وَنَحْوِهَا لِمَا قَرَّرْته أَيْضًا مِنْ أَنَّ السَّقْيَ لِتَوَحُّلِ الصَّيْدِ وَالْبِنَاءَ لِتَعْشِيشِ الطَّائِرِ لَا يُفْعَلُ عَادَةً إلَّا لِقَصْدِ تَمَلُّكِ الصَّيْدِ وَالطَّيْرِ، فَجَرَوْا فِيهِمَا عَلَى مُقْتَضَى الْعَادَةِ الْمُطَّرِدَةِ الْمُحْكَمَةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَفِي الْمِيَاهِ وَتَمَلُّكِهَا وَاسْتِحْقَاقِهَا وَجَرَوْا فِي الْحَفْرِ عَلَى مُقْتَضَاهَا أَيْضًا مِنْ أَنَّهُ لَا يَقْصِدُ مِنْهُ أَهْلُهَا إلَّا الِارْتِفَاقَ بِالْمِيَاهِ وَالِانْتِفَاعَ بِهَا دُونَ تَمَلُّكِهَا وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مَعْرُوفٌ.

أَلَا تَرَى أَنَّ مِيَاهَ نَحْوِ الصَّهَارِيجِ وَالْبِرَكِ لَا تُتَّخَذُ فِي الْعَادَةِ إلَّا لِلتَّصَرُّفِ فِيهَا بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ بِخِلَافِ مِيَاهِ الْأَنْهَارِ فَإِنَّهَا لَا تُتَّخَذُ لِذَلِكَ فِي الْعَادَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ قَصَدَ مَا يُوَافِقُ الْعَادَةَ اُعْتُدَّ بِقَصْدِهِ، بَلْ مَا يُوَافِقُهَا لَا يُحْتَاجُ فِي الْعَمَلِ بِهِ إلَى أَنْ يَقْصِدَ وَمِنْ ثَمَّ يَمْلِكُ الْمَاءَ فِي مَسْأَلَةِ نَحْوِ الْحَوْضِ السَّابِقَةِ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ تَمَلُّكَهُ وَمَا خَالَفَ الْعَادَةَ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَإِنْ قَصَدَ وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَكْتَفِ بِالْإِجْرَاءِ فِي النَّهْرِ، وَإِنْ قَصَدَ بِهِ التَّمَلُّكَ فَإِنْ قُلْت: لِمَ فَرَّقَ فِي مَسْأَلَةِ سَقْيِ الْأَرْضِ لِتَوَحُّلِ الصَّيْدِ وَنَحْوِهَا بَيْنَ الْقَصْدِ وَعَدَمِهِ وَلَمْ يُفَرِّقْ فِي الْمَاءِ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ فِي مَسْأَلَةِ نَحْوِ الْحَوْضِ يَمْلِكُهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ.

وَفِي مَسْأَلَةِ الْإِجْرَاءِ إلَى النَّهْرِ لَا يَمْلِكُهُ، وَإِنْ قَصَدَ قُلْت: حِكْمَةُ ذَلِكَ مَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ الْإِبَاحَةَ مُتَأَصِّلَةٌ فِي الْمَاءِ فَإِذَا وُجِدَ سَبَبٌ قَوِيٌّ يُخْرِجُهُ عَنْ أَصْلِهِ لَمْ يُحْتَجْ مَعَهُ إلَى قَصْدٍ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ سَبَبٌ قَوِيٌّ لَمْ يُؤَثِّرْ مَعَهُ الْقَصْدُ، وَأَمَّا نَحْوُ الصَّيْدِ فَلَيْسَ الْأَصْلُ فِيهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ لَنَا خِلَافٌ فِي أَنَّهُ يُمْلَكُ بِالْحِيَازَةِ فَأُدِيرَ الْأَمْرُ فِي التَّسَبُّبِ إلَى مِلْكِهِ بَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ بِهِ تَمَلُّكَهُ أَوْ لَا فَإِنْ قُلْت ذَهَبَ الْإِمَامُ إلَى أَنَّ مَا دَخَلَ فِي نَهْرِهِ أَوْ قَنَاتِهِ يَمْلِكهُ كَالْمُحْرَزِ فِي إنَائِهِ.

وَتَبِعَهُ الشَّيْخَانِ فِي بَابِ الصَّيْدِ

<<  <  ج: ص:  >  >>