للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سَنَةِ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ وَتِسْعِمِائَةٍ فِي إجَارَةِ وَقْفٍ، فَكَتَبْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ بَلَغَنِي أَنِّي خُولِفْت فِيهِ، ثُمَّ رُفِعَ إلَيَّ سُؤَالٌ بِصُورَةٍ أُخْرَى، فَكَتَبْت عَلَيْهِ

ثُمَّ سُؤَالٌ بِصُورَةٍ أُخْرَى فَكَتَبْت عَلَيْهِ حَتَّى أَضْجَرَتْنِي هَذِهِ الْوَاقِعَةُ، وَلَمْ أَكْتُبْ فِيهَا إلَّا بَعْدَ مَزِيدِ اسْتِخَارَةٍ وَتَثَبُّتٍ وَتَفَحُّصٍ، حَتَّى لَقَدْ اطَّلَعْتُ مِنْ تَصَانِيفِ أَئِمَّتِنَا الْمُعْتَبَرَةِ عَلَى مَا يَزِيدُ عَلَى سَبْعِينَ مُؤَلَّفًا، مِنْهَا مَا طَالَعْتُهُ كُلَّهُ كَكِتَابِ الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ، وَمِنْهَا مَا طَالَعْت أَكْثَرَهُ كَكُتُبِ الْفَتَاوَى، وَمِنْهَا مَا طَالَعْت مَوَاضِعَ عَدِيدَةً مِنْهُ، فَلَمَّا كَثُرَتْ مِنِّي الْكِتَابَاتُ فِي ذَلِكَ أَرَدْت أَنْ أَجْمَعَهَا مَعَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا فِي هَذَا التَّأْلِيفِ، وَسَمَّيْته (الْإِتْحَافُ بِبَيَانِ أَحْكَامِ إجَارَةِ الْأَوْقَافِ) أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَهُ وَسِيلَةً لِي يَوْمِ الدِّينِ، وَعُدَّةً أَدَّخِرُهَا عِنْدَهُ، إنَّهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَأَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْت، وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ.

وَرَتَّبْتُهُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَبَابَيْنِ وَخَاتِمَةِ الْمُقَدِّمَةِ فِي السُّؤَالِ الْأَوَّلِ وَهُوَ شَخْصٌ وَقَفَ دَارًا عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِ ثُمَّ أَوْلَادِهِمْ وَهَكَذَا وَشَرَطَ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ ثُمَّ لِوَلَدِهِ الْمُعَيَّنِ ثُمَّ لِلْأَرْشَدِ وَحَكَمَ بِمُوجَبِ الْوَقْفِ وَبِصِحَّتِهِ وَلُزُومِهِ حَنَفِيٌّ وَشَرَطَ أَنْ يُبْدَأَ بِعِمَارَتِهِ مِنْ إجَارَتِهِ بِنَظَرِ وَلَدِهِ فَبَعْدَ وَفَاتِهِ أَجَّرَهُ وَلَدُهُ مِائَةَ سَنَةٍ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ لِعِمَارَتِهِ وَحَكَمَ بِصِحَّةِ الْإِيجَارِ شَافِعِيٌّ مَثَلًا فَهَلْ حُكْمُ الْحَنَفِيِّ يَتَنَاوَلُ الْحُكْمَ بِبُطْلَانِ هَذِهِ الْإِجَارَةِ؟ فَإِنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ إجَارَةُ الْوَقْفِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ. فَأَجَبْت: الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ مُتَضَمِّنٌ لِلْحُكْمِ بِجَمِيعِ الْآثَارِ الَّتِي يَرَاهَا الْحَاكِمُ، بِشَرْطِ أَنْ يَدْخُلَ وَقْتُ الْحُكْمِ بِهَا عَلَى الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ فِيهِ، مِثَالُهُ: أَنْ يَحْكُمَ حَنَفِيٌّ بِمُوجَبِ تَدْبِيرٍ.

فَمِنْ مُوجَبِهِ عِنْدَهُ مَنْعُ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ، فَقَدْ حَكَمَ بِهِ فِي وَقْتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَنْعٌ لِلسَّيِّدِ مِنْهُ فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَذِنَ لَهُ شَافِعِيٌّ فِيهِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَقْضًا لِلْحُكْمِ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ أَيْضًا الْحُكْمُ بِصِحَّةِ بَيْعِهِ لَوْ وَقَعَ، فَإِنَّهُ وَقَعَ بَاطِلًا بِقَضِيَّةِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ. إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ عُلِمَ مِنْهُ أَنَّ حُكْمَ الْحَنَفِيِّ بِمُوجَبِ هَذَا الْوَقْفِ مُتَضَمِّنٌ لِحُكْمِهِ بِامْتِنَاعِ إجَارَتِهِ مُدَّةً لَا يُجِيزُهَا الْحَنَفِيُّ؛ لِأَنَّ هَذَا أَثَرٌ مِنْ آثَارِ حُكْمِهِ، وَقَدْ دَخَلَ وَقْتُهُ فَصَارَ كَأَنَّهُ وَجَّهَ حُكْمَهُ إلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ الْحُكْمُ بِمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ نَقْضًا لِحُكْمِ الْحَنَفِيِّ وَعَلَى التَّنَزُّلِ، وَأَنَّ حُكْمَ الْحَنَفِيِّ لَا يَشْمَلُ ذَلِكَ فَإِجَارَةُ النَّاظِرِ الْوَقْفَ مِائَةَ سَنَةٍ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ لِذَلِكَ بَاطِلَةٌ، كَمَا حَرَّرَهُ الْوَلِيُّ أَبُو زُرْعَةَ فِي فَتَاوِيهِ حَيْثُ قَالَ: مَا يَفْعَلُهُ حُكَّامُ مَكَّةَ مِنْ إجَارَةِ دُورِ الْوَقْفِ الْخَرِبَةِ السَّاقِطَةِ مِائَةَ سَنَةٍ أَوْ نَحْوَهَا عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ لِأُجْرَةِ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ لِأَجْلِ الْعِمَارَةِ حَسَنٌ يَسُوغُ اعْتِمَادُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَقْفِ حَاصِلٌ يُعْمَرُ بِهِ، وَلَا وُجِدَ مَنْ يُقْرِضُ الْقَدْرَ الْمُحْتَاجَ إلَيْهِ لِلْعِمَارَةِ بِأَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ تِلْكَ الْمُدَّةِ، فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِإِجَارَةِ مُدَّةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ بِأُجْرَةٍ حَالَّةٍ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ لِذَلِكَ اهـ.

فَإِجَارَةُ النَّاظِرِ الْمَذْكُورَةُ بَاطِلَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا، عَلَى أَنَّ الْأَذْرَعِيَّ قَالَ: لَا تَجُوزُ إجَارَةُ الْوَقْفِ مِائَةَ سَنَةٍ مَثَلًا مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى اسْتِهْلَاكِ الْوَقْفِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ إجَارَةَ النَّاظِرِ الْمَذْكُورَةَ بَاطِلَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيِّ وَالشَّافِعِيِّ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ اهـ. جَوَابِي، ثُمَّ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ نَازَعَ فِيهِ بِإِطْلَاقِ قَوْلِ الشَّيْخَيْنِ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ أَنَّ الْوَقْفَ كَالْمِلْكِ زَاعِمًا أَنَّ قَضِيَّتَهُ صِحَّةُ الْإِجَارَةِ مُطْلَقًا، وَرَوَّجَ بِهِ عَلَى الْقَاضِي الْحَنَفِيِّ فَكَتَبْت إلَيْهِ أُبَيِّنُ بُطْلَانَ ذَلِكَ الِاعْتِرَاضِ، فَقُلْت: مَا أَفْتَيْت بِهِ مِنْ بُطْلَانِ الْإِجَارَةِ ذَكَرْت لَهُ سَبَبَيْنِ. أَوَّلَهُمَا: حُكْمُ الْحَنَفِيِّ بِالْمُوجَبِ وَإِفْسَادُ هَذِهِ الْإِجَارَةِ مِائَةَ سَنَةٍ ظَاهِرٌ مِمَّا قَرَّرْته فِيهِ تَبَعًا لِمَا صَرَّحَ بِهِ جَمْعٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا، فَلَا مَسَاغَ لِإِنْكَارِهِ، لَا يُقَالُ: لَيْسَ الْوَقْفُ كَالتَّدْبِيرِ لِتَشَوُّفِ الشَّارِعِ إلَى الْعِتْقِ؛ وَلِأَنَّ الْبِيَعَ يُنَافِي التَّدْبِيرَ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ لَا تُنَافِي الْوَقْفَ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الشَّارِعُ تَشَوَّفَ إلَى الْوَقْفِ أَيْضًا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ.

وَزَعْمُ أَنَّ الْبِيَعَ يُنَافِي التَّدْبِيرَ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ لَا تُنَافِي الْوَقْفَ غَلَطٌ فَاحِشٌ، فَإِنَّ النَّظَرَ هُنَا إلَى مَذْهَبِ الْحَاكِمِ الْحَنَفِيِّ، وَالْإِجَارَةُ الطَّوِيلَةُ مُنَافِيَةٌ لِلْوَقْفِ عِنْدَهُ أَيْضًا، فَالْمَسْأَلَتَانِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ ثَانِيَهُمَا: مَا حَكَيْته عَنْ أَبِي زُرْعَةَ وَالْأَذْرَعِيِّ.

فَأَمَّا مَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ فَإِطْلَاقُهُ بَعِيدٌ عَنْ قَوَاعِدِنَا، فَلِذَا لَمْ أَذْكُرْهُ فِي الْجَوَابِ إلَّا لِتَقْوِيَةِ كَلَامِ أَبِي زُرْعَةَ، وَأَمَّا مَا قَالَهُ أَبُو زُرْعَةَ فَهُوَ حَسَنٌ وَقَوَاعِدُنَا لَا تُخَالِفُهُ، بَلْ تُؤَيِّدُهُ وَتُقَوِّيهِ كَمَا سَأَذْكُرُهُ.

فَإِنْ قِيلَ:

<<  <  ج: ص:  >  >>