يُنَافِيهِ قَوْلُ الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا فِي بَابِ الْإِجَارَةِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّ الْأَرْضَ تُؤَجَّرُ مِائَةَ سَنَةٍ وَأَكْثَرَ، وَالْوَقْفُ كَالْمِلْكِ فَظَاهِرُ التَّشْبِيهِ: جَوَازُ إجَارَةِ الْوَقْفِ مِائَةَ سَنَةٍ، وَلَوْ كَانَ عَامِرًا بِدُونِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَجُوزُ فِيهِ ذَلِكَ، وَقَدْ شُبِّهَ الْوَقْفُ بِهِ فَلْيُعْطَ حُكْمَهُ، قُلْت: لَا قَائِلَ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ بِظَاهِرِ هَذَا التَّشْبِيهِ الْمَذْكُورِ، وَإِنَّمَا سَبَبُ تَوَهُّمِ هَذَا مِنْهُ الْغَفْلَةُ عَنْ كَلَامِهِمَا أَعْنِي الرَّوْضَةَ وَأَصْلَهَا فِي بَابِ الْوَقْفِ، إذْ بِتَأَمُّلِهِ يُعْلَمُ أَنَّ مُرَادَهُمَا بِقَوْلِهِمَا: الْوَقْفُ كَالْمِلْكِ أَيْ فِي أَنَّهُ لَا يُقَدَّرُ بِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، لَا يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ تَشْبِيهِ الْوَقْفِ بِالْمِلْكِ.
وَأَمَّا حُكْمُ إجَارَةِ النَّاظِرِ مِنْ الصِّحَّةِ تَارَةً وَالْفَسَادِ أُخْرَى، فَقَدْ تَعَرَّضُوا لَهُ فِي بَابِ الْوَقْفِ، حَيْثُ أَشَارُوا فِيهِ إلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ النَّاظِرَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِ الْوَقْفِ كَالْوَصِيِّ بِالْمَصْلَحَةِ بِالنِّسْبَةِ لِرِعَايَةِ مَقْصُودِهِ وَبَقَاءِ عَيْنِهِ، لَا بِالنِّسْبَةِ لِرِعَايَةِ مَصْلَحَةِ الْمُسْتَحِقِّ، وَصَرَّحُوا أَيْضًا بِأَنَّ النَّاظِرَ فِي مَالِ الْوَقْفِ كَالْوَصِيِّ وَالْقَيِّمِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ، وَالْوَصِيُّ وَالْقَيِّمُ لَا يَجُوزُ لَهُمَا التَّصَرُّفُ إلَّا بِالْغِبْطَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَلَا يُكْتَفَى فِيهِمَا بِقَوْلِهِمَا، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ إحْدَاهُمَا عِنْدَ الْقَاضِي، فَكَذَلِكَ النَّاظِرُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَ الْوَقْفَ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ إلَّا لِحَاجَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ تَعُودُ لِلْوَقْفِ لَا لِلْمُسْتَحِقِّ.
وَقَدْ ثَبَتَتْ عِنْدَ الْقَاضِي وَمَتَى تَصَرَّفَ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ فَتَصَرُّفُهُ بَاطِلٌ، هَذَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ أَئِمَّتِنَا فِي بَابِ الْوَقْفِ صَرِيحًا وَاقْتِضَاءً
وَتَشْبِيهُ الشَّيْخَيْنِ الْوَقْفَ بِالْمِلْكِ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ لَا يُنَافِيهِ كَمَا تَقَرَّرَ لِمَا ذَكَرْته أَنَّ مَعْنَى التَّشْبِيهِ أَنَّهُ لَا يَتَقَيَّدُ بِمُدَّةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِهِ عَلَى وَفْقِ الْغِبْطَةِ أَوْ الْمَصْلَحَةِ أَوْ الْحَاجَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْوَقْفِ دُونَ مُسْتَحَقِّهِ، عَلَى أَنَّ الشَّيْخَيْنِ إنَّمَا قَصَدَا بِذَلِكَ التَّشْبِيهِ الرَّدَّ عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِنَا فِي قَوْلِهِ: لَا تَجُوزُ إجَارَةُ الْوَقْفِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ، فَمِنْ ثَمَّ قَالَا عَقِبَهُ: وَهُوَ غَرِيبٌ، لَكِنْ انْتَصَرَ لَهُ فِي الْخَادِمِ وَتَعَجَّبَ مِنْ اسْتِغْرَابِهِمَا لَهُ، وَبَيَّنَ وَجْهَ ذَلِكَ قَالَا أَعْنِي الشَّيْخَيْنِ نَقْلًا عَنْ الْمُتَوَلِّي: إنَّ الْحُكَّامَ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ لَا يُؤَجَّرَ الْوَقْفُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ، لِئَلَّا يَنْدَرِسَ ثُمَّ تَعَقَّبَاهُ بِقَوْلِهِمَا، وَهَذَا اصْطِلَاحٌ غَيْرُ مُطَّرِدٍ، وَبَيَّنَ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّ الْحُكَّامَ مِنْ أَئِمَّتِنَا مَالُوا فِي ذَلِكَ إلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّهُ أَحْوَطُ
وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو زُرْعَةَ وَصَاحِبُ الْأَنْوَارِ: إنَّ مَا فَعَلُوهُ مِنْ ذَلِكَ الِاصْطِلَاحِ هُوَ الِاحْتِيَاطُ، وَقَالَ السُّبْكِيّ مُنْتَصِرًا لِهَذَا الِاصْطِلَاحِ: لَعَلَّ سَبَبَهُ أَنَّ إجَارَةَ الْوَقْفِ تَحْتَاجُ إلَى أَنْ تَكُونَ بِالْقِيمَةِ، وَتَقْوِيمُ الْمُدَّةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ الْبَعِيدَةِ ضَعِيفٌ، قَالَ: وَفِيهِ أَيْضًا تَوَقُّعُ الِانْتِقَالِ إلَى الْبَطْنِ الثَّانِي، وَقَدْ تَتْلَفُ الْأُجْرَةُ فَتَضِيعُ عَلَيْهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ لِعِمَارَةٍ وَنَحْوِهَا، فَالْحَاكِمُ يَجْتَهِدُ فِي ذَلِكَ وَيَقْصِدُ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى اهـ كَلَامُ السُّبْكِيّ، وَهُوَ مُتَّجَهٌ، إذْ يَجِبُ عَلَى نَاظِرِ الْوَقْفِ رِعَايَةُ الْمَصْلَحَةِ فِي إيجَارِهِ فَلَا يُؤَجِّرُهُ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ تَتَعَلَّقُ بِبَقَاءِ عَيْنِهِ، وَقَدْ انْحَصَرَتْ فِي إيجَارِهِ تِلْكَ الْمُدَّة كَمَا بَيَّنَهُ أَبُو زُرْعَةَ فِي فَتَاوِيهِ، وَلَا يُؤَجِّرُهُ مُدَّةً طَوِيلَةً لِرِعَايَةِ مَصْلَحَةِ الْمُسْتَحِقِّ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ الْأَذْرَعِيِّ: يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ إجَارَةُ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ اهـ.
وَلَا يُظَنُّ بِأَبِي زُرْعَةَ أَنَّهُ ذَكَرَ مَا مَرَّ عَنْهُ فِي الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ مِنْ امْتِنَاعِهَا إلَّا بِشُرُوطِهَا الْمَذْكُورَةِ غَافِلًا عَنْ قَوْلِ الشَّيْخَيْنِ السَّابِقِ: إنَّ الْوَقْفَ كَالْمِلْكِ بَلْ قَرَّرَهُ أَوَّلًا، وَاعْتَمَدَهُ وَرَدَّ مَا يُخَالِفُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ حُكْمَ إجَارَةِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ فَحِينَئِذٍ لَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِكَلَامِهِمَا؛ لِأَنَّهُ قَائِلٌ بِكَلَامِهِمَا وَمُبَيَّنٌ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ لَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرَاهُ، وَسَبَبُهُ مَا قَدَّمْته مِنْ أَنَّ كَلَامَهُمَا كَالْأَصْحَابِ فِي بَابِ الْوَقْفِ دَالٌّ عَلَى ذَلِكَ وَنَاطِقٌ بِهِ.
وَعِبَارَةُ الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا فِيهِ وَظِيفَةُ الْمُتَوَلِّي الْعِمَارَةُ وَالْإِجَارَةُ وَتَحْصِيلُ الرَّيْعِ وَقِسْمَتُهُ عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ وَحِفْظُ الْأُصُولِ وَالْغَلَّاتِ عَلَى الِاحْتِيَاطِ اهـ. فَقَوْلُهُ عَلَى الِاحْتِيَاطِ رَاجِعٌ إلَى كُلٍّ مِمَّا قَبْلَهُ وَمِنْهُ الْإِجَارَةُ فَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ إجَارَةَ النَّاظِرِ إنَّمَا تَنْفُذُ مِنْهُ إنْ كَانَتْ عَلَى جِهَةِ الِاحْتِيَاطِ وَأَنْ لَا تُؤَجَّرَ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ إلَّا إنْ اُحْتِيجَ إلَيْهَا وَكَانَ فِيهَا مَصْلَحَةٌ لِعَيْنِ الْوَقْفِ، وَسَبَقَهُمَا الْجُرْجَانِيُّ إلَى ذَلِكَ، وَعِبَارَتُهُ: وَيَتَصَرَّفُ مَنْ إلَيْهِ النَّظَرُ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي يَدِهِ عَلَى وَجْهِ الْأَمَانَةِ كَالْوَكِيلِ وَالْوَصِيِّ انْتَهَتْ.
وَكَوْنُهُ كَالْوَصِيِّ صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخَانِ أَيْضًا فَقَالَا: لَا بُدَّ مِنْ صَلَاحِيَةِ الْمُتَوَلِّي لِشَغْلِ التَّوْلِيَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute