نَقْضِ الْحُكْمِ وَالْقِيَامِ التَّامِّ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَصِيَاحِهِ فِي الْمَلَإِ فِي مَوَاطِنَ عَدِيدَةٍ بِأَنَّ نَقْضَ الْحُكْمِ هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ الْآنَ مُخَالِفٌ فِي ذَلِكَ وَمُشَدِّدٌ النَّكِيرَ عَلَى مَنْ يُعْتَمَدُ إفْتَاءَ ابْنِ الصَّلَاحِ، فَتَأَمَّلْ اخْتِلَافَ الْأَغْرَاضِ، كَيْفَ يُلْجِئُ غَيْرَ الْمُوَفَّقِ إلَى مَاذَا؟ وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْحَقَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْمُوَافِقَ لِلْقَوَاعِدِ وَالْبَرِيءَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْهَوَى وَالتَّعَصُّبِ تَفْصِيلٌ يُوَافِقُ عَلَيْهِ كُلُّ مَنْ لَهُ أَدْنَى مِسْكَةٍ مِنْ فَهْمٍ، وَأَحَاطَهُ بِتَصَرُّفَاتِ كَلَامِ الْأَصْحَابِ، وَأَمَّا عُمُومُ كَلَامِ ابْنِ الصَّلَاحِ فِي النَّقْضِ وَعُمُومُ كَلَامِ السُّبْكِيّ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ بِعَدَمِهِ فَغَيْرُ ظَاهِرٍ، فَلَا تُعَوِّلْ عَلَيْهِمَا لِمَا سَأُمْلِيهِ عَلَيْك مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْحَقَّ مَا ذَكَرْته مِنْ ذَلِكَ التَّفْصِيلِ فَأَقُولُ: قَدْ أَشْبَعْت الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ.
وَحَاصِلُهُ مَعَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِبَيِّنَةٍ لَا يَقْتَضِي تَرْجِيحُهَا كَمَا ذَكَرُوهُ، بَلْ مَتَى كَانَ فِي إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ مَعْنًى يَقْتَضِي تَرْجِيحَهَا قُدِّمَتْ وَإِنْ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِالْأُخْرَى خِلَافًا لِمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ بَعْضِ الْعِبَارَاتِ، إذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَقَدْ أَفْتَى ابْنُ الصَّلَاحِ بِأَنَّهُ لَوْ اُحْتِيجَ لِبَيْعِ مَالِ يَتِيمٍ فَشَهِدَتْ بَيِّنَةٌ بِالْحَاجَةِ وَبِأَنَّ قِيمَتَهُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ، فَبَاعَهُ الْقَيِّمُ بِذَلِكَ وَحَكَمَ حَاكِمٌ أَيْ شَافِعِيٌّ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ أَنَّ غَيْرَهُ يَرْجِعُ فِي نَقْضِ حُكْمِهِ إلَى قَوَاعِدِ مَذْهَبِهِ دُونَ مَذْهَبِ غَيْرِهِ بِصِحَّةِ الْبِيَعِ، ثُمَّ قَامَتْ بَيِّنَةٌ أُخْرَى بِأَنَّهُ بِيعَ بِلَا حَاجَةٍ أَوْ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ نُقِضَ الْحُكْمُ وَحُكِمَ بِفَسَادِ الْبِيَعِ.
قَالَ: لِأَنَّهُ إنَّمَا حَكَمَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْبَيِّنَةَ سَالِمَةٌ مِنْ الْمُعَارِضِ وَقَدْ بَانَ خِلَافُهُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أُزِيلَتْ يَدُ الدَّاخِلِ بِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ ثُمَّ أَقَامَ ذُو الْيَدِ بَيِّنَةً فَإِنَّ الْحُكْمَ يُنْقَضُ لِذَلِكَ وَفِيهِ وَجْهٌ يَجِيءُ هُنَا اهـ.
وَمَا ذُكِرَ فِي الْبِيَعِ بِلَا حَاجَةٍ يَأْتِي تَوْجِيهُهُ وَخَالَفَهُ السُّبْكِيّ وَصَنَّفَ فِيهِ مُصَنَّفًا فَقَالَ: الَّذِي أَرَاهُ إنَّهُ لَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ بِالشَّكِّ وَإِنَّمَا نُقِضَ فِيمَا قَاسَ عَلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ لِأَجْلِ الْيَدِ وَقَدْ قَالَ الْأَصْحَابُ: بِأَنَّهُ لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِأَنَّهُ سَرَقَ ثَوْبًا قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ وَشَهِدَ آخَرَانِ بِأَنَّ قِيمَتَهُ عِشْرُونَ وَجَبَ أَقَلُّ الْقِيمَتَيْنِ لِأَنَّهُ الْمُحَقَّقُ اهـ.
وَرَدَّهُ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا سَقَى اللَّهُ تَعَالَى ثَرَاهُ فِي عِمَادِ الرِّضَا فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ فَقَالَ عَقِبَهُ: وَيُجَابُ عَنْهُ أَيْ عَمَّا أَوْرَدَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ الصَّلَاحِ: بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ نَقْضٌ بِالشَّكِّ وَمَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ قَبْلَ الْحُكْمِ بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، وَلِهَذَا لَوْ وَقَعَ التَّعَارُضُ فِيهَا قَبْلَ الْبَيْعِ وَالْحُكْمِ امْتَنَعَا كَمَا صَرَّحَ هُوَ أَيْ السُّبْكِيّ بِهِ اهـ.
وَوَجْهُ عَدَمِ تَسْلِيمِهِ لِمَا قَالَهُ السُّبْكِيّ مَا قَدَّمْته مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ مُرَجِّحًا وَحِينَئِذٍ فَغَايَةُ مَا أَفَادَتْهُ الْبَيِّنَةُ الْأُولَى الظَّنُّ وَمُفَادُ الْبَيِّنَةِ الثَّانِيَةِ الظَّنُّ أَيْضًا فَقُدِّمَتْ لِمَا مَرَّ عَنْ ابْنِ الصَّلَاحِ مِنْ أَنَّ الْحَاكِمَ إنَّمَا حَكَمَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْبَيِّنَةَ سَالِمَةٌ مِنْ الْمُعَارِضِ، وَقَدْ بَانَ خِلَافُهُ فَإِنْ قُلْت: كَلَامُ الشَّيْخِ فِي شَرْحِ الرَّوْضِ رُبَّمَا يَقْتَضِي ضَعْفَ كَلَامِ ابْنِ الصَّلَاحِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ مُخَالِفًا لِمَا ذَكَرُوهُ فِي مَسْأَلَةِ التَّقْوِيمِ مِنْ تَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الْأَقَلِّ فِيهِ؛ لِأَنَّ مُدْرِكَهَا الِاجْتِهَادُ وَقَدْ تُطْلِعُ بَيِّنَةُ الْأَقَلِّ عَلَى عَيْبٍ فَمَعَهَا زِيَادَةُ عِلْمٍ قُلْت: كَلَامُهُ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ كَلَامَ ابْنِ الصَّلَاحِ يُخَالِفُ كَلَامَهُمْ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ وَعِنْدَ عَدَمِ التَّأَمُّلِ، وَأَمَّا عِنْدَ التَّحْقِيقِ فَلَا يُخَالِفُهُ.
وَقَدْ أَشَارَ الشَّيْخُ إلَى ذَلِكَ حَيْثُ نَقَلَ عَنْ بَعْضِهِمْ وَهُوَ أَبُو زُرْعَةَ أَنَّهُ حَمَلَ كَلَامَهُ عَلَى حَالَةٍ وَكَلَامَهُمْ عَلَى حَالَةٍ أُخْرَى كَمَا سَأَذْكُرُهُ عَنْهُ
وَأَقَرَّهُ الشَّيْخُ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَكِتَابُهُ أَدَبُ الْقَضَاءِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ شَرْحِ الرَّوْضِ وَالْقَاعِدَةُ: أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ أَقْوَالِ الْإِنْسَانِ بِالْمُتَأَخِّرِ مِنْهَا عَلَى أَنَّ أَدَبَ الْقَضَاءِ أَمَسُّ بِتَحْرِيرِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ، فَالِاعْتِنَاءُ يَكُونُ فِيهِ بِالْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقَضَاءِ أَكْثَرَ فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِ الْأَئِمَّةِ: إنَّ مَا صَحَّحَهُ الشَّافِعِيُّ أَوْ غَيْرُهُ فِي بَابِهِ أَوْلَى بِالِاعْتِمَادِ مِمَّا صَحَّحَاهُ فِي غَيْرِ بَابِهِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِنَاءَ بِتَحْرِيرِ الْمَسَائِلِ فِي أَبْوَابِهَا أَكْثَرُ مِنْهُ فِي غَيْرِهَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَجْرِي فِي نَظَائِرِهَا أَيْ كَصُورَةِ السُّؤَالِ وَغَيْرِهَا هَذَا وَاَلَّذِي يُتَّجَهُ فِي ذَلِكَ التَّفْصِيلِ الَّذِي أَشَرْت إلَيْهِ فِيمَا مَرَّ وَهُوَ أَنَّ الْعَيْنَ إنْ كَانَتْ بَاقِيَةً قَائِمَةً عَلَى صِفَاتِهَا وَقْتَ نَحْوِ الْبِيَعِ أَوْ الْإِجَارَةِ وَقُطِعَ بِكَذِبِ الْبَيِّنَةِ الشَّاهِدَةِ بِالزِّيَادَةِ، لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهَا.
وَحُكْمُ الْحَاكِمِ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ حَتَّى عِنْدَ ابْنِ الصَّلَاحِ كَمَا هُوَ جَلِيٌّ، وَإِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ وَقُطِعَ بِكَذِبِ الْبَيِّنَةِ الْأُولَى