فَحِينَئِذٍ يُقْتَصَرُ عَلَى الْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَبَيَّنَ عِنْدَهُ حَالُهَا، وَالْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ لَا يَقْتَضِي إلَّا أَنَّهُ سَبَبٌ لِلْمُؤَاخَذَةِ وَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَى شَرْطٍ أَوْ انْتِفَاءِ مَانِعٍ فَالْحُكْمُ بِمُوجَبِ الْإِقْرَارِ حُكْمٌ بِسَبَبِيَّةِ الْمُؤَاخَذَةِ، ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مَانِعٌ أَعْمَلْنَا السَّبَبَ وَأَثْبَتْنَا الْمُؤَاخَذَةَ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ يُحْكَمُ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ اعْتِمَادًا عَلَى الْأَصْلِ وَعَلَيْهِ يَتَلَازَمُ الْحُكْمَانِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ أَخَصُّ وَبِهِ ظَهَرَ عُذْرُ الْحُكَّامِ فِي تَوَقُّفِهِمْ فِي الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ دُونَ الْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ، وَشُرُوطُ الْإِقْرَارِ الَّتِي لَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمَهَا الْحَاكِمُ بِالْبَيِّنَةِ عِنْدَ التَّرَدُّدِ، وَإِلَّا اُكْتُفِيَ بِعِلْمِهِ بِظَاهِرِ الْحَالِ فِيهَا ثَلَاثَةٌ: صِحَّةُ الصِّيغَةِ وَإِمْكَانُ الْمُقَرِّ بِهِ وَرُشْدُ الْمُقِرِّ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مَانِعٌ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ مُوجَبِ الْإِنْشَاءِ وَصِحَّةِ الْإِنْشَاءِ. أَنَّ مُوجَبَهُ أَثَرُهُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ شَرْعًا، وَصِحَّتَهُ كَوْنُهُ بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ الشَّرْعِيُّ وَلِلصِّحَّةِ شُرُوطٌ تَرْجِعُ إلَى الْمُتَصَرِّفِ وَالْمُتَصَرَّفِ فِيهِ وَكَيْفِيَّةِ التَّصَرُّفِ، فَإِنْ ثَبَتَتْ حُكِمَ بِصِحَّةِ التَّصَرُّفِ وَإِنْ ثَبَتَ فَقْدُ بَعْضِهَا حُكِمَ بِفَسَادِهِ، وَإِنْ تَرَدَّدَ فَمَا رَجَعَ لِلصِّيغَةِ أَوْ لِحَالِ الْمُتَصَرِّفِ ظَاهِرٌ مِمَّا سَبَقَ فِي الْإِقْرَارِ أَوْ لِحَالِ الْمُتَصَرِّفِ فِيهِ فَمَا كَانَ مِنْ الشُّرُوطِ الْوُجُودِيَّةِ كَالْمِلْكِ. وَنَحْوِهِ اُشْتُرِطَ ثُبُوتُهُ لِلْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ أَوْ الْعَدَمِيَّةِ كَكَوْنِهِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ وَنَحْوِهِ لَمْ يُشْتَرَطْ ثُبُوتُهُ، فَحَيْثُ لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ وَلَا عَدَمُهُ وَثَبَتَ مَا سِوَاهُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُعْتَبَرَةِ لَمْ يُحْكَمْ بِالصِّحَّةِ، وَلَكِنَّ التَّصَرُّفَ صَالِحٌ وَسَبَبٌ لِتَرَتُّبِ أَثَرِهِ عَلَيْهِ فِي الْمَمْلُوكِ فَيُحْكَمُ بِمُوجَبِهِ، وَلَهُ فَوَائِدُ: كَوْنُ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ سَبَبًا يُفِيدُ الْمِلْكَ بِشَرْطِهِ حَتَّى إذَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِي إفَادَتِهِ كَالْوَقْفِ عَلَى النَّفْسِ، وَالْحَاكِمُ مِمَّنْ يَرَاهُ ارْتَفَعَ الْخِلَافُ وَمُؤَاخَذَةُ الْوَاقِفِ بِذَلِكَ.
وَكَذَا وَارِثُهُ وَكُلُّ مَنْ هُوَ بِيَدِهِ إذَا أَقَرَّ لِلْوَاقِفِ بِالْمِلْكِ وَصُرِفَ الرَّيْعُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ بِاعْتِرَافِ ذِي الْيَدِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى الْحُكْمِ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَلْ وَقْفُ الْوَاقِفِ لِمَا فِي يَدِهِ أَوْ اعْتِرَافُ ذِي الْيَدِ لَهُ كَافٍ فِيهِ كَمَا فِي الْإِقْرَارِ، فَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ فِي الْحَقِيقَةِ حُكْمٌ بِالسَّبَبِيَّةِ وَبِثُبُوتِ أَثَرِهَا فِي حَقِّ مَنْ أَقَرَّ بِالْمِلْكِ كَالْوَاقِفِ وَمَنْ تَلَقَّى عَنْهُ، وَفِي حَقِّ غَيْرِهِمْ بِشَرْطِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ فَإِنَّ حُكْمَ الْبَيِّنَةِ لَازِمٌ لِكُلِّ أَحَدٍ وَحُكْمَ الْإِقْرَارِ قَاصِرٌ عَلَى الْمُقِرِّ وَمَنْ تَلَقَّى عَنْهُ، فَإِذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ لَازِمًا لِكُلِّ أَحَدٍ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ كَانَ لَازِمًا لِذِي الْيَدِ وَمَنْ اعْتَرَفَ لَهُ وَلَا نَقُولُ: إنَّ الْحُكْمَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ، بَلْ الْحُكْمُ مُسْتَمِرٌّ عَلَى وَجْهٍ كُلِّيٍّ يَنْدَرِجُ فِيهِ مَنْ ثَبَتَ الْمِلْكُ عَلَيْهِ إمَّا بِإِقْرَارٍ وَإِمَّا بِبَيِّنَةٍ
وَالْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ بِشَيْئَيْنِ: الْحُكْمُ بِالشَّرْطِ وَانْتِفَاءُ الْمَانِعِ وَصِحَّةُ التَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهِ مُطْلَقًا، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِثُبُوتِ أَثَرِهِ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ، فَالْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ حُكْمٌ بِثُبُوتِ الْأَثَرِ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ ثَبَتَ الْمِلْكُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ، وَلَوْ مُتَجَدِّدَيْنِ بَعْدَهُ وَيَلْزَمُ مِنْهُ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ فِي حَقِّهِمْ لَا مُطْلَقًا، وَالْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ حُكْمٌ بِالْمُؤَثِّرِيَّةِ التَّامَّةِ مُطْلَقًا، وَيَلْزَمُ مِنْهَا ثُبُوتُ الْأَثَرِ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ، ثُمَّ الْقِسْمَانِ يَشْتَرِكَانِ فِي الْحُجَّةِ مَا لَمْ يَأْتِ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِدَافِعٍ، وَقَوْلُ الْحَاكِمِ فِي إسْجَالِهِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الشَّرَائِطِ الْمُعْتَبَرَةِ يَسْتَدْعِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ عِنْد الْحَاكِمِ إلَّا عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِهِ، وَإِلَّا كَانَ حُكْمُهُ بَاطِلًا، وَأَمَّا عِنْدَنَا فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلْحُكْمِ مُطْلَقًا بَلْ فِي الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ، فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِ بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ إنْ اسْتَوْفَى الشَّرَائِطَ الْمُعْتَبَرَةَ اسْتَلْزَمَ ذَلِكَ حُكْمَهُ بِالْمُلْكِ، وَإِلَّا لَزِمَ الْقَدْحُ فِيهِ عَلَى أَنَّ بَعْدَ إلَخْ تَأْكِيدٌ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ الْأَمِينَ الدَّيِّنَ إنَّمَا يَحْكُمُ بِالصِّحَّةِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ ذَلِكَ.
نَعَمْ تَرَدَّدَ الْأَصْحَابُ فِي شَاةٍ فِي يَدِ رَجُلٍ حَكَمَ لَهُ بِهَا حَاكِمٌ وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ وَلَمْ يُعْلَمْ سَبَبُ حُكْمِهِ، وَقَامَتْ بَيِّنَةٌ أَنَّهَا لِغَيْرِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ أَبِي عَصْرُونَ وَقَالَ: أَقْيَسُهُمَا لَا يُنْقَضُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدَّمَ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَبَتَ عِنْدَهُ عَدَالَةُ الْبَيِّنَةِ الْأُخْرَى، فَلَا يُنْقَضُ بِالشَّكِّ. اهـ الْمَقْصُودُ مِنْ كَلَامِ السُّبْكِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى فَوَائِدَ بِتَأَمُّلِهَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ غَيْرَهُ فِي أَنَّ شَرْطَ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ، وَأَنَّ شَرْطَ الْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ أَمْرَانِ، وَأَنَّ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ أَخَصُّ مِنْ الْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ، وَأَنَّ الْقَوْلَ بِتَلَازُمِهِمَا إنَّمَا هُوَ احْتِمَالٌ لَهُ، وَأَنَّ الْحُكْم بِالصِّحَّةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute