للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَلِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ تَعَلُّقٌ بِمَنَافِعِهِ؛ لِأَنَّهُمْ يَمْلِكُونَهَا وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ النَّاظِرُ مُتَكَلِّمًا عَلَى الْغَيْرِ بِطَرِيقِ الْوِلَايَةِ يُشْتَرَطُ فِيهِ ذَلِكَ، فَلَا أَثَرَ لِشَرْطِ الْوَاقِفِ الْمَذْكُورِ، فَإِنْ قُلْتَ: شَرْطُ الْوَاقِفِ مُرَاعًى كَنَصِّ الشَّارِعِ قُلْتُ: مَحَلُّ مُرَاعَاتِهِ حَيْثُ لَمْ يُخَالِفْ غَرَضَ الشَّارِعِ عَلَى أَنَّ شَرْطَهُ عَلَى النَّاظِرِ الْعَمَلُ بِمَا يَرَاهُ لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يُؤَجَّرُ بِدُونِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَلَا مُدَّةً طَوِيلَةً، بِلَا مَصْلَحَةٍ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَهُ هَذَا يَجِبُ تَنْزِيلُهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا يَرَاهُ مِمَّا يُوَافِقُ غَرَضَ الشَّارِعِ، فَإِنْ صَرَّحَ بِعَمَلِهِ بِمَا يَرَاهُ، وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْ ذَلِكَ كَانَ لَغْوًا يَجِبُ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ.

وَأَمَّا عَنْ الْمَسْأَلَةِ الْخَامِسَةِ: فَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجِبِ أَعَمُّ مِنْ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ، فَلَا يَسْتَلْزِمُهُ إذْ الْأَعَمُّ كَالْحَيَوَانِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ كَالْإِنْسَانِ، وَبِمَا ذَكَرْته أَفْتَى شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ خَاتِمَةُ الْمُتَأَخِّرِينَ سَقَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ثَرَاهُ، فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ شَافِعِيٍّ حَكَمَ بِمُوجَبِ الْبَيْعِ فِي أَمَاكِنَ مَلَكَهَا الْبَائِعُ مِنْ وَالِدَتِهِ، وَثَبَتَ عِنْدَهُ التَّمْلِيكُ وَحَكَمَ بِمُوجَبِهِ أَيْضًا، فَهَلْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ حُكْمِهِ؟

(فَأَجَابَ) : بِأَنَّ ثُبُوتَ الشَّيْءِ عِنْدَ الْحَاكِمِ لَا يَقْتَضِي صِحَّتَهُ فَقَدْ يَثْبُتُ الشَّيْءُ عِنْدَهُ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي كَوْنِهِ صَحِيحًا أَوْ لَا، وَالْحُكْمُ بِمُوجَبِ الشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي الْحُكْمَ بِصِحَّتِهِ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى مِلْكِ ذَلِكَ الشَّيْءِ لِلْعَاقِدِ، فَيَجُوزُ لِلْحَاكِمِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ حُكْمِهِ بِالْمُوجِبِ إنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ مَا يَقْتَضِي رُجُوعَهُ عَنْهُ كَعَدَمِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْعَاقِدِ اهـ.

وَكَلَامُهُ فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ يُوَافِقُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ جَعَلَ كَأَصْلِهِ وَغَيْرِهِ لِلْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ ثَلَاثَةَ شُرُوطٍ أَهْلِيَّةَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَثُبُوتَ الْمِلْكِ وَالْيَدِ فِي غَيْرِ الْإِقْرَارِ حَالَةَ الْعَقْدِ، وَوُجُودَ الصِّيغَةِ الْمُعْتَبَرَةِ، وَلِلْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ ثُبُوتُ الْأَهْلِيَّةِ، وَوُجُودُ الصِّيغَةِ، قَالَ: فَالْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ أَخَصُّ مِنْ الْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ ثُمَّ قَالَ: فَقَوْلُ السُّبْكِيّ: إنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجِبِ حُكْمٌ بِالصِّحَّةِ إلَّا أَنَّهُ دُونَهُ فِي الْمَرْتَبَةِ فِيهِ نَظَرٌ، بَلْ الْحُكْمُ بِهِ حُكْمٌ بِمَا تَقْتَضِيهِ الْبَيِّنَةُ فِيهِ فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فَصَحِيحٌ أَوْ فَاسِدًا فَفَاسِدٌ اهـ.

وَقَدْ بَيَّنْت فِي كِتَابِي فِي بَيْعِ الْمَاءِ وَالْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ حَاصِلَ مَا قَالَهُ السُّبْكِيّ وَالْبُلْقِينِيُّ وَأَبُو زُرْعَةَ وَغَيْرُهُمْ فِي الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ وَالْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ، وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ مِمَّا لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ مَجْمُوعًا فِي كِتَابٍ، وَبَيَّنْتُ فِيهِ أَنَّ السُّبْكِيّ لَمْ يُطْلِقْ أَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجِبِ حُكْمٌ بِالصِّحَّةِ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ حُكْمًا بِهَا فِي شَيْءٍ خَاصٍّ، وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ بِمُوجَبِ الْإِقْرَارِ يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَصِحَّةِ الْمُقَرِّ بِهِ لَكِنْ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ وَوَارِثِهِ وَمَنْ صَدَّقَهُ دُونَ غَيْرِهِمْ، فَالْحُكْمَانِ إنَّمَا يَفْتَرِقَانِ فِيمَا يَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ بِالصِّحَّةِ مُطْلَقًا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، فَفِي هَذَا الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ وَقَدْ أَوْضَحَ ذَلِكَ السُّبْكِيّ بِزِيَادَةٍ تُبَيِّنُ أَنَّهُ قَائِلٌ: بِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ أَعَمُّ فِي كِتَابِهِ الْمُوعَبُ فِي الْقَضَاءِ بِالْمُوجَبِ فَقَالَ: مَا حَاصِلُهُ فَإِنْ قُلْتَ: أَمَّا السُّؤَالُ الْأَوَّلُ فَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُوجَبَ هُوَ الْأَثَرُ الَّذِي يُوجِبُهُ ذَلِكَ اللَّفْظُ وَالصِّحَّةُ بِكَوْنِ اللَّفْظِ بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْأَثَرُ وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ، وَالْأَوَّلُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَالثَّانِي شَرْعِيٌّ، وَقِيلَ: عَقْلِيٌّ وَإِنَّمَا يَحْكُمُ الْحَاكِمُ بِهِ لِاسْتِلْزَامِهِ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَالْحَاكِمُ لَا يَحْكُمُ إلَّا بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ الْإِيجَابُ أَوْ التَّحْرِيمُ أَوْ الصِّحَّةُ أَوْ الْفَسَادُ أَوْ السَّبَبِيَّةُ أَوْ الشَّرْطِيَّةُ أَوْ الْمَانِعِيَّةُ، بِخِلَافِ الْكَرَاهَةِ أَوْ النَّدْبِ إذْ لَا الْتِزَامَ فِيهِمَا وَلَا اسْتِلْزَامَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ مُوجَبِ الْإِقْرَارِ وَصِحَّةِ الْإِقْرَارِ أَنَّ الْأَوَّلَ ثُبُوتُ الْمُقَرِّ بِهِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ وَمُؤَاخَذَتُهُ بِهِ، وَالثَّانِي كَوْنُهُ بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَشَرْطُ الصِّحَّةِ اخْتِيَارُهُ وَصِحَّةُ عِبَارَتِهِ وَأَنْ لَا يُكَذِّبُهُ حِسٌّ وَلَا عَقْلٌ وَلَا شَرْعٌ وَصِحَّةُ صِيغَتِهِ

فَالْحُكْمُ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ يَقْتَضِي حُصُولَ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَلَا يَحْكُمُ بِهَا إلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ بِحُصُولِ هَذِهِ الشُّرُوطِ كُلِّهَا وَلَا يَضُرُّ احْتِمَالُ كَذِبِ الْمُقِرِّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَمَتَى لَمْ يَكُنْ الْمُقَرُّ بِهِ فِي يَدِ الْمُقِرِّ فَالْإِقْرَارُ فَاسِدٌ ظَاهِرًا، فَإِذَا صَارَ فِي يَدِهِ صَحَّ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ إقْرَارِهِ السَّابِقِ، وَمَتَى عَلِمَ الْقَاضِي فَوَاتَ شَرْطِ الصِّحَّةِ أَوْ عَلِمَ حَجْرًا وَشَكَّ فِي زَوَالِهِ لَمْ يَحْكُمْ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَلَا بِمُوجَبِهِ بَلْ بِفَسَادِهِ فِي غَيْرِ مَسْأَلَةِ الشَّكِّ. أَمَّا فِيهَا فَلَا يَحْكُمُ بِصِحَّةِ إقْرَارِهِ وَلَا بِمُوجَبِهِ حَتَّى يَثْبُتَ زَوَالُهُ.

وَقَوْلُ الْقَاضِي: لَوْ شَهِدُوا عَلَى إقْرَارٍ مُطْلَقٍ حُمِلَ عَلَى الصِّحَّةِ، وَإِنْ احْتَمَلَ عَوَارِضَ يَمْنَعُهَا مَحَلُّهُ حَيْثُ لَا مُعَارِضَ حَصَلَ بِسَبَبِهِ شَكٌّ لَمْ يَثْبُتْ.

<<  <  ج: ص:  >  >>