للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَدَّمْتُهُ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ وَغَيْرِهِ، مِنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَصْلَحَةٍ تَعُودُ لِلْوَقْفِ دُونَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِ الْوَجِيزِ: وَتَأْثِيرُهُ أَيْ: لُزُومِ الْوَقْفِ إزَالَةُ الْمِلْكِ وَحَبْسُ التَّصَرُّفِ عَلَى الْمَوْقُوفِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُغَيَّرَ قَوْلُهُ وَحَبْسُ التَّصَرُّفِ عَلَى الْمَوْقُوفِ بِقَصْرِ التَّصَرُّفِ عَلَى مَا يُلَائِمُ غَرَضَ الْوَاقِفِ وَيَمْنَعُ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ اهـ.

كَلَامُ الرَّافِعِيِّ، فَتَأَمَّلْ تَفْسِيرَهُ كَلَامَ الْغَزَالِيِّ بِقَصْرِ التَّصَرُّفِ الَّذِي لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ النَّاظِرِ عَلَى مَا يُلَائِمُ غَرَضَ الْوَاقِفِ وَيَمْنَعُ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ تَجِدْهُ قَاضِيًا بِمَا قُلْنَاهُ: مِنْ أَنَّ مَصْلَحَةَ التَّصَرُّفِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَرْجِعَ إلَى غَرَضِ بَقَاءِ الْوَقْفِ، وَأَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ هَذَا مَعَ غَرَضِ الْمُسْتَحِقِّ قُدِّمَ الْأَوَّلُ وَمُنِعَ الْمُسْتَحِقُّ مِنْ غَرَضِهِ الْمُنَافِي لَهُ، فَإِنْ قُلْتَ: لَا شَاهِدَ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ لِأَنَّ مِنْ غَرَضِ الْوَاقِفِ نَفْعَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ قُلْتُ: نَعَمْ هُوَ مِنْهُ، لَكِنْ إنَّمَا يُرَاعَى حَيْثُ لَمْ يُعَارِضْ غَرَضَ الْوَقْفِ، أَمَّا عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ فَيُقَدَّمُ غَرَضُ الْوَقْفِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَوْ جَعَلْنَا مُجَرَّدَ زِيَادَةِ الْأُجْرَةِ مُسَوِّغًا لِلْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى اسْتِهْلَاكِ الْوَقْفِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةِ الْوَقْفِ إلَى ذَلِكَ

لَكِنَّا قَدَّمْنَا غَرَضَ الْمُسْتَحِقِّ عَلَى غَرَضِ الْوَاقِفِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ كَمَا عَلِمْتَ مِنْ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ هَذَا، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُمْ لَوْ قَالَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ أَسْكُنُ الدَّارَ.

وَقَالَ النَّاظِرُ أُؤَجِّرُهَا لِأُرَمِّمَهَا بِأُجْرَتِهَا أُجِيبَ النَّاظِرُ، فَهَذَا فِيهِ التَّصْرِيحُ مِنْهُمْ بِتَقْدِيمِ مَصْلَحَةِ الْوَقْفِ عَلَى مَصْلَحَةِ الْمُسْتَحِقِّ وَقَوْلُهُمْ فِي مَوْقُوفٍ لَهُ مَنَافِعُ يَجْتَهِدُ الْحَاكِمُ وَيَسْتَعْمِلُهُ فِيمَا هُوَ أَقْرَبُ إلَى مَقْصُودِ الْوَاقِفِ، وَأَجْرَى الرَّافِعِيُّ ذَلِكَ فِي الدَّارِ الْمُشْرِفَةِ عَلَى انْهِدَامٍ، فَفِيهِ تَصْرِيحٌ مِنْهُ بِأَنَّهُ إذَا تَقَابَلَ غَرَضُ الْوَاقِفِ وَغَرَضُ الْمُسْتَحِقِّ قُدِّمَ غَرَضُ الْوَاقِفِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ تَقَابَلَ غَرَضَاهُمَا، فَلْيُقَدَّمْ غَرَضُ الْوَاقِفِ مِنْ عَدَمِ الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ عَلَى غَرَضِ الْمُسْتَحِقِّ، وَقَوْلُهُمْ يُرَاعَى غَرَضُ الْوَاقِفِ مَا أَمْكَنَ فَانْظُرْ قَوْلَهُمْ مَا أَمْكَنَ تَجِدْهُ صَرِيحًا فِيمَا قُلْنَاهُ، وَمِمَّا يُصَرِّحُ بِذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُمْ فِي بَابِ التَّفْلِيسِ. وَالْعِبَارَةُ لِلشَّيْخَيْنِ: يُؤَجَّرُ الْمَوْقُوفُ عَلَى الْمُفْلِسِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةَ إلَى أَنْ يَفِيَ الدَّيْنَ، وَتَبِعَهُمَا الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى ذَلِكَ فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُمْ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْأُخْرَى.

وَلَمْ يَقُولُوا يُؤَجَّرُ مُدَّةً طَوِيلَةً تَرَاهُ شَاهِدًا لِمَا قَرَّرْتُهُ مِنْ رِعَايَةِ غَرَضِ الْوَاقِفِ دُونَ الْمُسْتَحِقِّ، وَإِلَّا لَمْ يَحْتَجْ إلَى تَكَرُّرِ الْإِجَارَةِ، وَأُجِّرَ مُدَّةً طَوِيلَةً رِعَايَةً لِغَرَضِهِ مَعَ قُوَّتِهِ بِأَنَّ الْحَجْرَ يَدُومُ عَلَيْهِ حَتَّى يَنْفِيَ الدَّيْنَ عَلَى مَا فِيهِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ تَلْتَفِتْ الْأَئِمَّةُ إلَى هَذَا الْغَرَضِ، وَيُجَوِّزُونَ الْإِجَارَةَ لِأَجْلِ ارْتِفَاعِ الْحَجْرِ مُدَّةً طَوِيلَةً تَفِي بِالدَّيْنِ، بَلْ أَوْجَبُوا أَنْ يُؤَجَّرَ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَإِنْ أَدَّى إلَى دَوَامِ الْحَجْرِ فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ خَالَفَ السُّبْكِيّ كَلَامَ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا فَقَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: الْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: إذَا كَانَ أَيْ: الْعَيْنُ الْمَوْقُوفَةُ مِمَّا تُؤَجَّرُ غَالِبًا لِمُدَّةٍ قَرِيبَةٍ يَغْلِبُ الْبَقَاءُ فِيهَا أُلْزِمَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ جُمْلَةَ تِلْكَ الْمُدَّةِ كَالْمَالِ الْحَاضِرِ عُرْفًا، وَتُضَافُ تِلْكَ الْأُجْرَةُ إلَى بَقِيَّةِ أَمْوَالِهِ وَيُقَسَّمُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَيُفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهُ.

وَقَالَ فِي غَيْرِهِ: الْأَقْرَبُ أَنَّهُ يُؤَجَّرُ دَفْعَةً وَاحِدَةً بِأُجْرَةٍ مُعَجَّلَةٍ لَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، خِلَافًا لِلشَّيْخَيْنِ قُلْتُ: لَا نَظَرَ لِمُخَالَفَتِهِ هَذِهِ فَإِنَّهُ نَفْسَهُ صَرَّحَ بِأَنَّ هَذَا رَأْيٌ لَهُ وَلَمْ يَرَهُ مَنْقُولًا، وَإِذَا تَعَارَضَ رَأْيُهُ وَمَنْقُولُ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، قُدِّمَ الْمَنْقُولُ وَلَمْ يَجُزْ الْعَمَلُ بِذَلِكَ الرَّأْيِ كَمَا هُوَ بَدِيهِيٌّ لِمَنْ عِنْدَهُ أَدْنَى إلْمَامٍ بِأُصُولِ الْمَذْهَبِ وَمَأْخَذِهِ، فَتَأَمَّلْ جَمِيعَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مُهِمٌّ وَفِيهِ دَلَالَاتٌ ظَاهِرَةٌ أَوْ صَرِيحَةٌ لِمَا قَرَّرْتُهُ. فَإِنْ قُلْتَ: مَا وَجْهُ دَلَالَةِ عِبَارَتِهِمْ عَلَى امْتِنَاعِ إيجَارِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ هُنَا؟ قُلْتُ: صَرَاحَةُ عِبَارَتِهِمْ عَلَى ذَلِكَ لَا تَحْتَاجُ إلَى بُرْهَانٍ، وَكَفَاك شَاهِدًا عَلَى ذَلِكَ مُخَالَفَةُ السُّبْكِيّ الْمَذْكُورَةُ إذْ لَوْلَا أَنَّ تِلْكَ الْعِبَارَةَ لِلِاشْتِرَاطِ لَمَا قَالَ خِلَافًا لِلشَّيْخَيْنِ، وَلَمَا قَالَ عَمَّا قَالَهُ هَذَا مَا رَأَيْتُهُ وَلَمْ أَرَهُ مَنْقُولًا.

وَأَمَّا عَنْ الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ فَهُوَ أَنَّ كَلَامَهُمْ مُصَرِّحٌ بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الشُّرُوطِ الَّتِي اشْتَرَطُوهَا فِي النَّاظِرِ بَيْنَ أَنْ يَشْرُطَ لَهُ الْوَاقِفُ الْعَمَلَ بِمَا يَرَاهُ وَأَنْ لَا، وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ اشْتِرَاطَ تِلْكَ الشُّرُوطِ فِيهِ لَيْسَ لِحَظِّ الْوَاقِفِ فَحَسْبُ؛ لِأَنَّ الْمِلْك انْقَطَعَ عَنْهُ وَإِنَّمَا هُوَ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي رَقَبَةِ الْمَوْقُوفِ صَارَ مِلْكًا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بِمَعْنَى أَنَّهُ انْقَطَعَ عَنْ رَقَبَتِهِ اخْتِصَاصُ الْآدَمِيِّينَ، وَإِلَّا فَجَمِيعُ الْأَشْيَاءِ مِلْكُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى الْحَقِيقَةِ بِكُلِّ تَقْدِيرٍ، وَإِذَا صَارَ الْمِلْكُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى

<<  <  ج: ص:  >  >>