للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَصْلَحَةِ وَهُمْ لَمْ يَشْتَرِطُوا فِي إجَارَةِ النَّاظِرِ إلَّا الْمَصْلَحَةَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ اشْتِرَاطِ الْأَعَمِّ اشْتِرَاطُ الْأَخَصِّ، وَإِذَا أَجَّرَهُ بِزِيَادَةٍ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ كَانَ ذَلِكَ مَصْلَحَةً، فَلِمَ لَا يُسَوَّغُ أَنَّ زِيَادَةَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ هُنَا بِمُجَرَّدِهَا تَكُونُ مَصْلَحَةً مُسَوِّغَةً لِلْإِجَارَةِ، وَإِنْ طَالَتْ مُدَّتُهَا، وَكَلَامُ السُّبْكِيّ إنَّمَا هُوَ فِي الْحَاجَةِ وَهِيَ مُنْحَصِرَةٌ فِي نَحْوِ الْعِمَارَةِ، فَلَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَاهُ: مِنْ جَوَازِ الْإِجَارَةِ لِلْمَصْلَحَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ قُلْتُ: أَمَّا كَوْنُ الْحَاجَةِ أَخَصَّ مِنْ الْمَصْلَحَةِ فَوَاضِحٌ

وَأَمَّا اشْتِرَاطُهُمْ فِي النَّاظِرِ مَا ذُكِرَ، فَإِنَّمَا هُوَ لِكَوْنِهِ شَرْطًا فِي كُلِّ إجَارَةٍ ثُمَّ بَعْضُ الْإِجَارَاتِ كَاَلَّذِي نَحْنُ فِيهِ يُشْتَرَطُ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ الْحَاجَةُ، وَبَعْضُهَا كَإِجَارَةِ الْمُدَّةِ الْقَلِيلَةِ يَكْفِي فِيهِ مُطْلَقُ الْمَصْلَحَةِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يُحْتَاجُ إلَى الزِّيَادَةِ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ، بَلْ حَيْثُ كَانَ فِي الْإِجَارَةِ مَصْلَحَةٌ اُكْتُفِيَ فِيهَا بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَحَيْثُ لَمْ يَكُنْ لَمْ يُكْتَفَ فِيهَا إلَّا بِالزِّيَادَةِ، كَمَا مَرَّ عَنْ الْكَمَالِ شَارِحِ الْإِرْشَادِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الزِّيَادَةَ بِمُجَرَّدِهَا لَيْسَتْ مَصْلَحَةً كَافِيَةً عَنْ غَيْرِهَا لَا فِي الْإِجَارَةِ الْقَصِيرَةِ، وَلَا فِي الطَّوِيلَةِ، فَبَطَلَ اعْتِبَارُ تِلْكَ الزِّيَادَةِ، وَلَمْ يَجُزْ النَّظَرُ إلَيْهَا وَبِهَذَا عُلِمَ الْجَوَابُ عَنْهُ.

فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ اشْتَرَطْتُمْ فِي الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ الْحَاجَةَ وَاكْتَفَيْتُمْ فِي الْقَصِيرَةِ بِمُجَرَّدِ الْمَصْلَحَةِ، قُلْتُ: لِأَنَّ الطَّوِيلَةَ فِيهَا مَفَاسِدُ شَتَّى كَمَا مَرَّ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُطْلِقِينَ لِلْمَنْعِ وَالْمُجَوِّزِينَ لَهَا بِالشُّرُوطِ السَّابِقَةِ، وَإِذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى مَفَاسِدَ مُنَافِيَةٍ لِغَرَضِ الْوَاقِفِ وَالشَّارِعِ مِنْ بَقَاءِ عَيْنِ الْوَقْفِ، فَكَانَ الْأَصْلُ امْتِنَاعَهَا، وَمَا كَانَ الْأَصْلُ امْتِنَاعَهُ لَا يَجُوزُ إلَّا لِضَرُورَةٍ أَوْ حَاجَةٍ حَاقَّةٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعِمَارَةَ إذَا تَوَقَّفَتْ عَلَى الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ كَانَ ذَلِكَ إمَّا ضَرُورَةً أَوْ حَاجَةً، فَمِنْ ثَمَّ جَوَّزُوهَا حِينَئِذٍ.

وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ ضَرُورَةً وَلَا حَاجَةً بِأَنْ كَانَ الْمَكَانُ عَامِرًا لَا يُخْشَى عَلَيْهِ انْهِدَامٌ، وَلَا يَحْتَاجُ لِتَرْمِيمٍ وَنَحْوِهِ مِنْ الْعِمَارَاتِ، فَالْمَنْعُ بَاقٍ بِحَالِهِ خَشْيَةً مِنْ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَلِيَّ قَالَ فِي رَدِّهِ: مَنْعُ الْأَذْرَعِيِّ الطَّوِيلَةَ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى اسْتِهْلَاكِهِ لَمْ أَرَ مَنْ قَالَهُ هَكَذَا فِي كُلِّ شَيْءٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَا نَظِيرَ يَشْهَدُ لَهُ، وَمَنْعُ الْإِجَارَةِ بِأَمْرٍ مُتَوَهَّمٍ، وَهُوَ إفْضَاءُ الْأَمْرِ إلَى اسْتِهْلَاكِهِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَلَا تَقْتَضِيهِ قَوَاعِدُنَا، وَكَيْفَ نُثْبِتُ أَمْرًا بِالشَّكِّ، وَلَيْسَ مِنْ مَذْهَبِنَا سَدُّ الذَّرَائِعِ اهـ.

فَرَدُّهُ لِهَذَا مَعَ تَقْيِيدِهِ الْجَوَازَ بِمَا مَرَّ عَنْهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ بِذَلِكَ رَدَّ إطْلَاقِ الْمَنْعِ لَا أَصْلِ الْمَنْعِ، وَإِلَّا لَمْ يَشْتَرِطْ فِي الْجَوَازِ مَا قَدَّمْتُهُ عَنْهُ، وَنَتَجَ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ الطَّوِيلَةَ لَا تَجُوزُ إلَّا لِحَاجَةٍ، وَلَيْسَ عِلَّتُهُ إلَّا مَا قَرَّرْته فَافْهَمْهُ، فَإِنْ قُلْتَ: يُنَافِي مَا ذَكَرْتَهُ كَلَامُ الْكَمَالِ شَارِحِ الْإِرْشَادِ فِي فَتَاوِيهِ

فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ وَقَفَ بَيْتًا يَمْلِكُهُ عَلَى وَلَدَيْ ابْنٍ لَهُ لِيَسْكُنَاهُ وَيُؤَجِّرَاهُ وَيَنْتَفِعَا بِهِ وَجَعَلَ النَّظَرَ فِي ذَلِكَ إلَيْهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ ثُمَّ بَعْدَهُ إلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمَا. ثُمَّ مَاتَ الْوَاقِفُ وَأَحَدُ الْوَلَدَيْنِ صَغِيرٌ لَمْ يَبْلُغْ فَاحْتَاجَ إلَى الْكِسْوَةِ وَالنَّفَقَةِ فَنَصَبَ الْحَاكِمُ الِابْنَ الْبَالِغَ عَلَى أَخِيهِ الْيَتِيمِ فَأَجَّرَ الْمَنْصُوبُ حِصَّةَ أَخِيهِ الْيَتِيمِ بِالْمَصْلَحَةِ لِحَاجَتِهِ وَضَرُورَتِهِ إلَى النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ عَلَى أَخِيهِ بِأُجْرَةٍ زَائِدَةٍ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ فِي الْوَقْفِ مُدَّةَ مِائَةِ سَنَةٍ وَقَبَضَ لَهُ الْأُجْرَةَ فَهَلْ تَصِحُّ هَذِهِ الْإِجَارَةُ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) : نَعَمْ تَصِحُّ الْإِجَارَةُ الْمَذْكُورَةُ اهـ.

قُلْت: لَا يُنَافَى مَا ذَكَرْته، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ أَطْلَقَ هُنَا الصِّحَّةَ وَقَدْ قَدَّمْتُ عَنْهُ عِدَّةَ أَمَاكِنَ مِنْ فَتَاوِيهِ مُصَرِّحَةً بِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ مِنْ مَصْلَحَةٍ غَيْرَ زِيَادَةِ الْأُجْرَةِ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ جَوَابَهُ مُنَزَّلٌ عَلَى مَا قَالَهُ السَّائِلُ وَهُوَ أَنَّهُ أَجَّرَ الْحِصَّةَ بِالْمَصْلَحَةِ وَلِحَاجَةِ الْيَتِيمِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ فَأَكْثَرَ، فَذَكَرَ هُنَا ثَلَاثَةَ أَسْبَابٍ الْمَصْلَحَةَ وَحَاجَةَ الْيَتِيمِ وَزِيَادَةَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ. فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ رَاجِعَةٌ لِعَيْنِ الْوَقْفِ، وَلَيْتَ مُسْتَنَدَ الْإِجَارَةِ فِي السُّؤَالِ ذُكِرَ فِيهِ مِثْلُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ إذْ لَوْ ذُكِرَ فِيهِ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ لَكَانَ أَمْرُهُ وَاضِحًا جَلِيًّا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ إلَّا أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الَّتِي لِلْوَقْفِ وَالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مُقَيَّدَةٌ بِزِيَادَةِ الْأُجْرَةِ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ

وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا قَرَّرْتُهُ وَوَضَّحْتُهُ أَنَّ مُجَرَّدَ هَذِهِ غَيْرُ كَافٍ فِي الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ فَاعْلَمْ ذَلِكَ، وَتَنَبَّهْ لَهُ، فَإِنَّ بَعْضَ الْمُعَانِدِينَ رُبَّمَا اطَّلَعَ عَلَى كَلَامِ الْكَمَالِ هَذَا فَجَعَلَهُ مُسْتَنَدًا لَهُ عَلَى صِحَّةِ مَكْتُوبِ الْإِجَارَةِ الَّذِي فِي السُّؤَالِ، وَلَيْسَ فِيهِ مُسْتَنَدٌ لِذَلِكَ بِوَجْهٍ لِمَا عَلِمْت مِنْ إيضَاحِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ رَأَيْت بَعْدَ فَرَاغِي مِنْ جَوَابِ الْمَسَائِلِ السَّابِقَةِ وَالْآتِيَةِ الرَّافِعِيَّ صَرَّحَ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَلْفَاظِ الْوَجِيزِ بِمَا هُوَ صَرِيحٌ فِيمَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>