للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَلِيلًا وَقَدْ يَنْقُصُ قَلِيلًا، فَلَمْ يَتَعَيَّنْ الْقَدْرُ الَّذِي يَخْتَصُّ بِالْإِبْطَالِ انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَطْبَقَ عَلَيْهِ أَئِمَّتُنَا أَنَّ الْعَادَةَ الْمُطَّرِدَةَ فِي زَمَنِ الْوَاقِفِ إذَا عَرَفَهَا تَكُونُ بِمَنْزِلَةِ شَرْطِهِ فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْبُلْقِينِيُّ إنَّمَا يَظْهَرُ إذَا كَانَتْ الْعَادَةُ حِينَ الْوَقْفِ قَدْ اطَّرَدَتْ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُمَاثَلَةِ لِلْمَوْقُوفِ أَنَّهَا لَا تُؤَجَّرُ إلَّا مُدَّةً مُعَيَّنَةً

فَحِينَئِذٍ يَنْزِلُ ذَلِكَ الْوَقْفُ عَلَيْهَا، وَيَمْتَنِعُ إيجَارُهُ مُدَّةً أَكْثَرَ مِنْ تِلْكَ الْمُدَّةِ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْعَادَةَ الْمَذْكُورَةَ كَشَرْطِ الْوَاقِفِ قُلْتُ: هُوَ كَذَلِكَ وَقَدْ يُقَالُ: يُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَى مَا لَوْ اطَّرَدَتْ عَادَةُ نُظَّارِ وَقْفٍ عَلَى إجَارَتِهِ مُدَّةً مُعَيَّنَةً، وَقَدْ جُهِلَ شَرْطُ الْوَاقِفِ، فَهُنَا يَلْزَمُ النَّاظِرَ الْجَائِيَ بَعْدَ أُولَئِكَ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى مِنْوَالِهِمْ، فَلَا تَجُوزُ لَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى مَا دَرَجُوا عَلَيْهِ كَمَا صَرَّحَ بِنَظِيرِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا مِنْ أَنَّ شَرْطَ الْوَاقِفِ إذَا جُهِلَ فِي شَيْءٍ وَاطَّرَدَتْ عَادَةُ نُظَّارِ الْوَقْفِ بِشَيْءٍ

وَجَبَ اتِّبَاعُهُمْ وَامْتَنَعَتْ مُخَالَفَتُهُمْ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ إنَّمَا اسْتَنَدُوا فِي ذَلِكَ لِشَرْطِ الْوَاقِفِ أَوْ الْعَادَةِ الْمُطَّرِدَةِ فِي زَمَنِهِ الْمُنَزَّلَةِ مَنْزِلَةَ شَرْطِهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَأَمَّا عَنْ الْمَسْأَلَةِ الثَّامِنَةِ فَهُوَ أَنَّ مِنْ الْوَاضِحِ أَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ بِمُقْتَضَى أَنَّ الْأُجْرَةَ إلَخْ لِلسَّبَبِيَّةِ أَوْ لِلْعِلَّةِ، فَهُمَا هُنَا سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ بَلْ فُرُوقٌ لَا بَأْسَ بِبَيَانِهَا لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ لِخَفَائِهِ وَنُدْرَةِ مَنْ نَبَّهَ عَلَيْهِ، فَنَقُولُ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَاللُّغَةِ وَالنَّحْوِ، فَأَمَّا فِي اللُّغَةِ فَالسَّبَبُ قَلَّمَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى غَيْرِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج: ١٥] أَيْ: حَبْلٍ إلَى سَقْفِ بَيْتِهِ، وَالْعِلَّةُ: الْمَرَضُ وَكَلِمَاتٌ يَدُورُ مَعْنَاهَا عَلَى أَمْرٍ يَكُونُ عَنْهُ مَعْنًى آخَرَ، أَوْ يُؤَثِّرُ فِي مَعْنًى آخَرَ.

وَمُرَادُهُمْ بِالتَّأْثِيرِ مَا لَا يَتَخَلَّفُ عَادَةً لَا الِاخْتِرَاعُ، وَيُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ قَالَ التَّاجُ السُّبْكِيّ: وَذَكَرَ النُّحَاةُ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا، حَيْثُ ذَكَرُوا أَنَّ اللَّامَ لِلتَّعْلِيلِ وَلَمْ يَقُولُوا لِلسَّبَبِيَّةِ، وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ وَلَمْ يَقُولُوا لِلتَّعْلِيلِ وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ وَالتَّعْلِيلِ وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُمَا غَيْرَانِ، وَمَثَّلَ لِلسَّبَبِيَّةِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة: ٢٢] ، وَالْعِلَّةُ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ} [النساء: ١٦٠] وَذَكَرُوا أَيْضًا: أَنَّ بَاءَ الِاسْتِعَانَةِ غَيْرُ مَعْنَى السَّبَبِ وَالْعِلَّةِ، وَحِينَئِذٍ فَالْبَاءُ الدَّاخِلَةُ عَلَى الِاسْمِ الَّذِي لَهُ قُدْرَةُ أَثَرٍ فِي وُجُودِ مُتَعَلَّقِهَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ بَاءُ الِاسْتِعَانَةِ وَبَاءُ السَّبَبِ وَبَاءُ الْعِلَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا إنْ صَحَّ نِسْبَةُ الْقَائِلِ إلَى مَصْحُوبِهَا مَجَازًا، فَهِيَ بَاءُ الِاسْتِعَانَةِ نَحْوَ كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، وَتُعَرَّفُ أَيْضًا بِأَنَّهَا الدَّاخِلَةُ عَلَى أَسْمَاءِ الْآلَاتِ وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ إنَّمَا وُجِدَ لِأَجْلِ وُجُودِ مَجْرُورِهَا، فَهِيَ بَاءُ الْعِلَّةِ نَحْوَ {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ} [النساء: ١٦٠] ، فَوُجُودُ التَّحْرِيمِ لَيْسَ إلَّا لِوُجُودِ الظُّلْمِ، وَتُعَرَّفُ بِأَنَّهَا الصَّالِحَةُ غَالِبًا لِحُلُولِ اللَّامِ مَحَلَّهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ كَذَلِكَ، فَهِيَ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ، نَحْوَ {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة: ٢٢] فَإِخْرَاجُ الثَّمَرَاتِ مُسَبَّبٌ عَنْ وُجُودِ الْمَاءِ وَلَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ الْمَاءِ، بَلْ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْعِبَادِ فَعُلِمَ أَنَّ بَاءَ الِاسْتِعَانَةِ لَا تَصِحُّ فِي الْأَفْعَالِ الْمَنْسُوبَةِ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، هَذَا مُنْتَهَى قَوْلِ النَّاقِلِينَ عَنْ الْعَرَبِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّرْعِ فَالسَّبَبُ وَالْعِلَّةُ يَشْتَرِكَانِ عِنْدَهُمْ فِي تَرَتُّبِ الْمُسَبَّبِ وَالْمَعْلُولِ عَلَيْهِمَا، وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ السَّبَبَ مَا يَحْصُلُ الشَّيْءُ عِنْدَهُ لَا بِهِ وَالْعِلَّةَ مَا يَحْصُلُ بِهِ، وَأَنْشَدَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي كِتَابِهِ الْقَوَاطِعِ

أَلَمْ تَرَ أَنَّ الشَّيْءَ لِلشَّيْءِ عِلَّةٌ ... يَكُونُ بِهِ كَالنَّارِ يُقْدَحُ بِالزَّنْدِ

وَلَكِنَّهُ اخْتَارَ فِي تَعْرِيفِ السَّبَبِ بِأَنَّهُ مَا يُوَصِّلُ إلَى الْمُسَبَّبِ مَعَ جَوَازِ الْمُفَارَقَةِ بَيْنَهُمَا، وَقِيلَ: تَقَدُّمٌ يُعْقِبُهُ مَقْصُودٌ لَا يُوجَدُ إلَّا بِتَقَدُّمِهِ، وَلَا أَثَرَ لَهُ فِيهِ، وَذَلِكَ كَالْحَبْلِ سَبَبٌ لِلْوُصُولِ لِلْمَاءِ، ثُمَّ الْوُصُولُ بِقُوَّةِ النَّازِحِ لَا بِالْحَبْلِ، وَالطَّرِيقُ سَبَبُ الْوُصُولِ لِلْمَقْصِدِ وَوُصُولُهُ بِقُوَّةِ الْمَاشِي لَا بِالطَّرِيقِ وَحَلُّ الْقَيْدِ سَبَبٌ لِفِرَارِ الْمُقَيَّدِ وَفِرَارُهُ بِقُوَّتِهِ لَا بِالْحَلِّ، وَمِنْهُ: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة: ٧٣] فَضَرْبُهُ بِبَعْضِهَا سَبَبُ الْحَيَاةِ، وَلَا أَثَرَ لَهُ فِيهَا، وَكَذَا ضَرْبُ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ، قَالَ: فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْمُوَصِّلُ مَعَ جَوَازِ الْمُفَارَقَةِ، وَأَطَالَ فِي تَعْرِيفِ السَّبَبِ وَالْعِلَّةِ وَالشَّرْطِ، وَعَقَدَ لِذَلِكَ بَابًا مُسْتَقِلًّا.

ثَانِيهِمَا أَنَّ الْمَعْلُولَ يَتَأَثَّرُ عَنْ عِلَّتِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>