للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِلَا وَاسِطَةٍ بَيْنَهُمَا وَلَا شَرْطٍ يَتَوَقَّفُ الْحُكْمُ عَلَى وُجُودِهِ، وَالسَّبَبُ إنَّمَا يُفْضِي إلَى الْحُكْمِ بِوَاسِطَةٍ أَوْ وَسَائِطَ، وَلِذَلِكَ يَتَرَاخَى الْحُكْمُ عَنْهُ حَتَّى تُوجَدَ الشَّرَائِطُ وَتَنْتِفِي الْمَوَانِعُ، وَأَمَّا الْعِلَّةُ، فَلَا يَتَرَاخَى الْحُكْمُ عَنْهَا إذْ لَا شَرْطَ لَهَا، بَلْ مَتَى وُجِدَتْ أَوْجَبَتْ مَعْلُولَهَا اتِّفَاقًا، كَمَا قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْآمِدِيَّ وَغَيْرُهُمَا، وَوَجَّهُوهُ بِدَلَائِلَ كَثِيرَةٍ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي الْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ إلَّا أَنَّ الْعِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ تُحَاكِيهَا أَبَدًا لَا يَفْتَرِقَانِ إلَّا فِي أَنَّ تِلْكَ مُوجِبَةٌ بِنَفْسِهَا بِخِلَافِ هَذِهِ قَالَ الْإِمَامُ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهَا تُوجِبُ الْمَعْلُولَ أَنَّهَا تُثْبِتُهُ كَمَا تَقْتَضِي الْقُدْرَةُ حُدُوثَ الْمَقْدُورِ، لَكِنَّا أَرَدْنَا بِالْإِيجَابِ تَلَازُمَ الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ وَاسْتِحَالَةَ ثُبُوتِ أَحَدِهِمَا دُونَ الثَّانِي اهـ.

وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْفَرْقُ الْأَوَّلُ السَّابِقُ بَيْنَ الْعِلَّةِ وَالسَّبَبِ، فَإِنَّهُ لَا يُلَازِمُ الْمُسَبَّبَ لِجَوَازِ تَخَلُّفِهِ لِمَانِعٍ أَوْ فَقْدِ شَرْطٍ وَالْعِلَّةُ سَالِمَةٌ مِنْ ذَلِكَ، فَالْمُلَازَمَةُ فِيهَا مَوْجُودَةٌ أَبَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ مِنْ نَافِذٍ طَلَاقُهُ عِلَّةٌ، لِأَنَّهُ يَسْتَعْقِبُ الْوُقُوعَ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى شَيْءٍ، وَإِنْ دَخَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ سَبَبٌ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى الدُّخُولِ، فَالسَّبَبُ مَوْجُودٌ وَالْمُسَبَّبُ مَفْقُودٌ، وَلَا كَذَلِكَ الْعِلَّةُ، وَالْأُصُولِيُّونَ لَمْ يَعْتَنُوا بِتَحْقِيقِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، بَلْ رُبَّمَا وَقَعَ فِي كَلَامِهِمْ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ مَقْصَدَهُمْ الْوَصْفُ الَّذِي تَرَتَّبَ بَعْدَهُ الْحُكْمُ وَلَهُ مَدْخَلٌ فِيهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إنْكَارًا مِنْهُمْ لِلْفَرْقِ، بَلْ لَمَّا لَمْ يَحْتَاجُوا إلَيْهِ لَمْ يَذْكُرُوهُ وَهُوَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ وَاسْتَعْمَلَهُ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْفِقْهِيَّاتِ عَلَى نَحْوِ مَا أَبْدَيْنَاهُ فَقَالَ فِي الْجِرَاحِ: مَا لَهُ دَخْلٌ فِي الزُّهُوقِ فَإِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ وَلَا فِيمَا يُؤَثِّرُ فِيهِ فَالشَّرْطُ كَالْحَفْرِ، وَإِنْ أَثَّرَ فِيهِ وَحَصَّلَهُ فَالْعِلَّةُ كَالْقَدِّ، وَإِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ بَلْ فِي حُصُولِهِ فَالسَّبَبُ كَالْإِكْرَاهِ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ سَمَّى الْحَفْرَ سَبَبًا فِي الْغَصْبِ، وَأَجَابَ ابْنُ الرِّفْعَةِ بِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحَفْرِ.

وَإِنْ انْعَدَمَتْ التَّرْدِيَةُ وَفِي الْجِرَاحِ لَا قِصَاصَ بِهِ إذَا انْعَدَمَتْ، وَمِنْ ثَمَّ جُعِلَ الْحَفْرُ سَبَبًا لِلدِّيَةِ لِتَرَتُّبِهَا عَلَيْهِ وَإِنْ انْعَدَمَتْ التَّرْدِيَةُ، فَالْحَفْرُ صَالِحٌ لِلسَّبَبِيَّةِ وَالشَّرْطِيَّةِ، فَإِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْمُسَبَّبُ كَانَ سَبَبًا، وَحِينَئِذٍ فَالرَّوَابِطُ بَيْنَ الْأَحْكَامِ وَالْأَسْبَابِ إمَّا مُسْتَقِلَّةٌ يُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهَا وَلَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا وَهِيَ الْعِلَلُ، وَإِمَّا غَيْرُ مُسْتَقِلَّةٍ، فَمَا لَهُ دَخْلٌ فِي التَّأْثِيرِ وَمُنَاسَبَةٌ أَيًّا كَانَ فِي قِيَاسِ الْمُنَاسَبَاتِ فَهُوَ السَّبَبُ، وَمَا لَا مَدْخَلَ لَهُ وَلَكِنَّهُ إذَا انْعَدَمَ يَنْعَدِمُ الْحُكْمُ فَهُوَ الشَّرْطُ، فَالْعِلَّةُ أَعْلَى رُتْبَةً مِنْهُمَا، وَمِنْ ثَمَّ وَجَبَ الْقِصَاصُ بِالْمُبَاشَرَةِ، وَهِيَ الْعِلَّةُ دُونَ الشَّرْطِ مُطْلَقًا وَدُونَ السَّبَبِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِيهِ، فَهُوَ رُتْبَةٌ وُسْطَى بَيْنَ الْعِلَّةِ وَالشَّرْطِ، نَعَمْ الشَّرْطُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ

وَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ أَقْوَى مِنْ السَّبَبِ إذْ هُوَ لَا مُلَازَمَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسَبَّبِ انْتِفَاءً وَثُبُوتًا، بِخِلَافِ الشَّرْطِ وَمِنْ ثَمَّ فَرَّقَ الْقَفَّالُ الْكَبِيرُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ بِأَنَّ مَا جَرَى مُقَارِنًا لِلشَّيْءِ أَوْ غَيْرَ مُقَارِنٍ وَلَا تَأْثِيرَ، فَالسَّبَبُ وَمَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهِ فَالشَّرْطُ فَهُوَ مُقَارِنٌ غَيْرُ مُقَارَنٍ كَالْعِلَّةِ سَوَاءٌ إلَّا أَنَّهُ عَلَامَةٌ عَلَى الْحُكْمِ وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ أَصْلًا بِخِلَافِ الْعِلَّةِ وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: الشَّرْطُ مَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهِ أَيْ لِكَوْنِهِ عَلَامَةً عَلَيْهِ، وَالسَّبَبُ لَا يُوجِبُ تَغَيُّرَهُ، بَلْ يُوجِبُ مُصَادَفَتَهُ وَمُوَافَقَتَهُ، وَيَتَخَرَّجُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ قَوْلُ الْوَسِيطِ: أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ سَبَبٌ لِإِفَادَةِ الْمِلْكِ وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ إنَّهُ مُفِيدٌ لِلْمِلْكِ احْتِرَازًا عَنْ زَمَنِ الْخِيَارِ، فَإِنَّهُ مَانِعٌ لِإِفَادَةِ الْمِلْكِ عَلَى تَفْصِيلٍ فَلَمْ يَكُنْ الْبَيْعُ مُفِيدًا لِلْمِلْكِ دَائِمًا، بَلْ سَبَبٌ لِإِفَادَتِهِ إنْ وُجِدَتْ شُرُوطُهُ وَانْتَفَتْ مَوَانِعُهُ كَالْخِيَارِ، فَسَبَبِيَّةُ الْبَيْعِ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا ثُمَّ عِنْدَنَا السَّبَبُ مُتَّصِلٌ بِالْمُسَبَّبِ حَتَّى فِي زَمَنِ الْخِيَارِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِيهِ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا وَمِنْ فَرْقِ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ الْعِلَّةِ وَالسَّبَبِ قَوْلُهُمْ: لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ بِرِضَا فُلَانٍ؛ لَمْ يَقَعْ إلَّا إنْ رَضِيَ بِخِلَافِ أَنْتِ طَالِقٌ لِرِضَا فُلَانٍ فَإِنَّهُ يَقَعُ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا لَا يُخَالِفُ مَا مَرَّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، بَلْ يُوَافِقُهُ، فَإِنَّ جَعْلَهُ الرِّضَا سَبَبًا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِوُقُوعِهِ، فَعَلَّقْنَا الْوُقُوعَ بِتَحَقُّقِ الرِّضَا، بِخِلَافِ جَعْلِهِ عِلَّةً فَإِنَّهُ جَزْمٌ بِوُقُوعِهِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْوُقُوعِ، فَأَخَذْنَاهُ بِمُقْتَضَاهُ لَكِنْ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنَّ ذَلِكَ لَوْ صَدَرَ مِنْ عَامِّيٍّ أَوْ نَحْوِيٍّ قَالَ: أَرَدْت بِالْعِلَّةِ مَعْنَى السَّبَبِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ إلَّا إنْ وُجِدَ الرِّضَا وَهُوَ مُتَّجِهٌ قِيَاسًا عَلَى مَا قَالُوهُ فِي أَنْتِ طَالِقٌ أَنْ دَخَلْتِ الدَّارَ بِفَتْحِ أَنْ إذَا تَقَرَّرَ

<<  <  ج: ص:  >  >>