ذَلِكَ فَلْنَرْجِعْ إلَى الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ بِمُقْتَضَى أَنَّ الْأُجْرَةَ إلَى آخِرِهِ، فَنَقُولُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُقْتَضَى الْوَاقِعِ فِي لَفْظِ الْحَاكِمِ وَمِثْلُهُ الشَّاهِدُ.
فَنَقَلَ الْوَلِيُّ أَبُو زُرْعَةَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْمُقْتَضَى لَا انْفِكَاكَ لَهُ ثُمَّ رَدَّهُ فَإِنَّهُ مَفْعُولٌ اُقْتُضِيَ أَيْ طُلِبَ، وَالطَّلَبُ قَدْ يَكُونُ مَعَ إلْزَامٍ وَمَعَ عَدَمِهِ، ثُمَّ الْمُقْتَضَى هُنَا هُوَ كَوْنُ الْأُجْرَةِ أُجْرَةَ الْمِثْلِ وَزِيَادَةً إذْ إضَافَةُ مُقْتَضَى إلَى مَا بَعْدَهُ إضَافَةٌ بَيَانِيَّةٌ أَوْ إضَافَةُ أَعَمَّ إلَى أَخَصَّ، وَعَلَى كُلٍّ تَكُونُ الْأُجْرَةُ كَذَلِكَ مُقْتَضَى أَيْ مَطْلُوبًا، وَحِينَئِذٍ فَالتَّقْدِيرُ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي إيجَارِ الْمَكَانِ الْمَذْكُورِ بِالْأُجْرَةِ الْمُعَيَّنَةِ ثَبَتَتْ بِمَطْلُوبٍ هُوَ أَنَّ تِلْكَ الْأُجْرَةَ زَائِدَةٌ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ أَيْ بِسَبَبِهِ أَوْ مِنْ أَجْلِهِ، وَكُلٌّ مِنْ السَّبَبِ وَالْعِلَّةِ يَقْتَضِي تَوَقُّفَ الْمُسَبَّبِ أَوْ الْمُعَلَّلِ عَلَى وُجُودِهِ سَوَاءٌ قُلْنَا: إنَّ الْمُقْتَضَى يَتَخَلَّفُ أَوْ لَا يَتَخَلَّفُ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي أَنَّ الْوُجُودَ عِنْدَ السَّبَبِ لَا بِهِ وَبِالْعِلَّةِ لَا عِنْدَهَا، أَوْ فِي أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى وَاسِطَةٍ بِخِلَافِهَا، وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ الْفَرْقَيْنِ لَا يَخْتَلِفُ بِهِ حُكْمٌ هُنَا، وَلَيْسَ مَا هُنَا نَظِيرَ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي مَسْأَلَتَيْ الطَّلَاقِ لِمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ آنِفًا فِيهِمَا، وَإِذَا اقْتَضَى كُلٌّ مِنْ ذَيْنَك أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي الْإِيجَارِ الْمَذْكُورِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى وُجُودِ الْمُقْتَضَى الْمَذْكُورِ، اقْتَضَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مُتَرَتِّبَةً إلَّا عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا عِلَّةَ وَلَا سَبَبَ لِوُجُودِهَا غَيْرَ هَذَا الْمُقْتَضَى.
أَلَا تَرَى إلَى مَا مَرَّ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة: ٢٢] وَقَوْلِهِ: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا} [النساء: ١٦٠] مِنْ أَنَّ الْإِخْرَاجَ وَالتَّحْرِيمَ إنَّمَا تَرَتَّبَا عَلَى الْمَاءِ وَالظُّلْمِ دُونَ غَيْرِهِمَا، وَإِذَا انْحَصَرَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي الْمُقْتَضَى الْمَذْكُورِ دَلَّ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ فِي تِلْكَ الْإِجَارَةِ إلَّا الزِّيَادَةُ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَقَدْ بَسَطْنَا لَك الْقَوْلَ فِيمَا مَرَّ أَنَّ هَذَا وَحْدَهُ كَافٍ وَغَيْرُ مُسَوِّغٍ فِي الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(الْخَاتِمَةُ) فِي السُّؤَالِ الرَّابِعِ، وَهُوَ مَا قَوْلُكُمْ فِي مُسْتَنَدِ إيجَارِ مَكَان وُقِفَ مُدَّةَ مِائَةِ سَنَةٍ صَدَرَ مِنْ نَاظِرٍ شَرْعِيٍّ: حَكَمَ شَافِعِيٌّ فِيهِ بِالْمُوجَبِ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ مَعْرِفَةُ الْمَكَانِ الْمَذْكُورِ وَأَنَّ الْأُجْرَةَ الَّتِي قَدَّرَهَا كَذَا أُجْرَةُ الْمِثْلِ يَوْمَئِذٍ لِلْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ فِيهِ وَأَنَّ الْحَظَّ وَالْمَصْلَحَةَ وَالْغِبْطَةَ الْوَافِرَةَ كَمَا شُرِحَ بِمُقَدِّمَةِ الْمُسْتَنَدِ الْمَذْكُورِ فِي إيجَارِ تِلْكَ الْمُدَّةِ الْمُعَيَّنَةِ أَعْلَاهُ بِالْأُجْرَةِ الْمُعَيَّنَةِ فِيهِ بِمُقْتَضَى أَنَّ الْأُجْرَةَ الْمُعَيَّنَةَ أَعْلَاهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَزِيَادَةٌ فَهَلْ قَوْلُهُ بِمُقْتَضَى أَنَّ الْأُجْرَةَ إلَى آخِرِهِ يَتَعَلَّقُ بِالْحَظِّ وَالْمَصْلَحَةِ وَالْغِبْطَةِ الْوَافِرَةِ فَيَتَقَيَّدُ بِذَلِكَ أَوْ يَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ آخَرَ مَعَ أَنَّ الْمُوَثِّقَ لِلْمُسْتَنَدِ الْمَذْكُورِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِذِكْرِ ثُبُوتِ خَرَابِ الْمَكَانِ الْمَذْكُورِ وَلَا لِإِشْرَافِهِ عَلَى الْخَرَابِ حَتَّى يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُسَوِّغَاتِ الْمُقْتَضِيَةِ لِإِيجَارِ الْمَكَانِ الْمَذْكُورِ الْمُدَّةَ الْمُعَيَّنَةَ مَثَلًا وَهَلْ يَحْتَاجُ فِي إيجَارِ الْأَوْقَافِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ إلَى ثُبُوتِ الْمَصْلَحَةِ لِلْوَقْفِ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا لَا وَإِذَا قُلْتُمْ بِالِاحْتِيَاجِ فَهَلْ الزِّيَادَةُ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ تُعَدُّ مَنْفَعَةً أَوْ لَا؟ وَهَلْ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ مِنْ الْحَاكِمِ الشَّافِعِيِّ الْمَذْكُورِ أَعْلَاهُ حُكْمٌ بِالصِّحَّةِ أَوْ لَا؟ وَهَلْ الْإِيجَارُ الْمَذْكُورُ صَحِيحٌ عَلَى النَّصِّ الْمَذْكُورِ الْمَشْرُوحِ أَوْ لَا؟ (فَأَجَبْتُ) : الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْمُسْتَنَدُ الْمَذْكُورُ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ إنَّمَا اسْتَنَدَ فِيهِ إلَى شَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ
وَأَنَّ حَاصِلَ صِيغَةِ تِلْكَ الشَّهَادَةِ أَشْهَدُ أَنَّ الْمَكَانَ الْمَوْصُوفَ بِكَذَا أُجْرَةُ مِثْلِهِ كَذَا لِمُدَّةِ مِائَةِ سَنَةٍ، وَأَنَّ الْحَظَّ وَالْمَصْلَحَةَ وَالْغِبْطَةَ الْوَافِرَةَ لِجِهَتَيْ الْوَقْفِ وَالْمُسْتَحَقِّينَ فِي إيجَارِهِ تِلْكَ الْمُدَّةَ بِتِلْكَ الْأُجْرَةِ، بِمُقْتَضَى أَنَّ الْأُجْرَةَ الْمَذْكُورَةَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَزِيَادَةٌ.
وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ هَذَا هُوَ حَاصِلُ لَفْظِ الشَّاهِدِ الَّذِي اسْتَنَدَ الْحُكْمُ إلَيْهِ فَقَطْ، فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مُؤَدَّى هَذَا اللَّفْظِ ثُمَّ حُكْمِهِ، فَمُؤَدَّاهُ أَنَّ الْحَظَّ وَمَا بَعْدَهُ لِتَيْنَك الْجِهَتَيْنِ فِي ذَلِكَ الْإِيجَارِ مُسَبَّبٌ أَوْ مَعْلُولٌ عَنْ كَوْنِ تِلْكَ الْأُجْرَةِ أُجْرَةَ الْمِثْلِ وَزِيَادَةً، إذْ الْبَاءُ إمَّا لِلسَّبَبِيَّةِ أَوْ الْعِلَّةِ، وَالْمُقْتَضَى الْمَطْلُوبُ وَإِضَافَتُهُ لِمَا بَعْدَهُ بَيَانِيَّةٌ أَوْ مِنْ إضَافَةِ الْأَعَمِّ إلَى الْأَخَصِّ، وَالْبَاءُ بِقِسْمَيْهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِمُتَعَلِّقِ خَبَرِ أَنَّ الْمُحَدَّثِ عَنْهُ أَوْ بِخَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا فَمَدْلُولُ اللَّفْظِ مَا ذَكَرْتُهُ مِنْ حَصْرِ الْحَظِّ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنْ زِيَادَةِ الْأُجْرَةِ، إذْ الْحُكْمُ إذَا عُلِّقَ بِسَبَبٍ وَهُوَ مَا يُوجَدُ عِنْدَهُ الْحُكْمُ بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِعِلَّةٍ وَهِيَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute