مَا يُوجَدُ بِهَا مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، دَلَّ ذَلِكَ التَّعَلُّقُ عَلَى أَنَّهُ لَا سَبَبَ لَهُ أَوْ لَا عِلَّةَ لَهُ إلَّا ذَلِكَ الْمَذْكُورَ فَقَطْ إذْ لَوْ كَانَ لَهُ سَبَبٌ آخَرُ أَوْ عِلَّةٌ أُخْرَى، لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَذْكُورُ سَبَبًا وَلَا عِلَّةً، وَإِنَّمَا السَّبَبُ أَوْ الْعِلَّةُ مَجْمُوعُ الْمَذْكُورِ وَالْمَحْذُوفِ أَوْ الْمَحْذُوفُ فَقَطْ وَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ مَدْلُولِ اللَّفْظِ فَوَجَبَ أَنْ لَا سَبَبَ أَوْ لَا عِلَّةَ إلَّا الْمَذْكُورَ وَحِينَئِذٍ ظَهَرَ حَصْرُ الْحَظِّ وَمَا بَعْدَهُ فِي ذَلِكَ الْمُقْتَضِي وَأَنَّهُ لَا حَظَّ فِي تِلْكَ الْإِجَارَةِ غَيْرُهُ
وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ هَذَا هُوَ مُؤَدَّى لَفْظِ الشَّاهِدِ الْمَذْكُورِ فَلْنُبَيِّنْ حُكْمَهُ مَعَ الْإِشَارَةِ إلَى عِبَارَاتِ الْأَئِمَّةِ بِأَوْجَزِ عِبَارَةٍ تَعْوِيلًا عَلَى مَا بَسَطَتْهُ فِي تَقْرِيرِهَا فِي غَيْرِ هَذَا فَنَقُولُ: قَدْ تَبَايَنَتْ آرَاءُ الْأَئِمَّةِ فِي الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ فَمَنَعَهَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْأَذْرَعِيُّ وَتَبِعَهُ تِلْمِيذُهُ الزَّرْكَشِيُّ، فَاسْتَبْعَدَ جَوَازَهَا، وَجَوَّزَهَا آخَرُونَ بِشَرْطٍ مِنْهُمْ السُّبْكِيّ وَأَبُو زُرْعَةَ وَغَيْرُهُمَا، وَجَرَى عَلَيْهِ الْكَمَالُ الرَّدَّادُ شَارِحُ الْإِرْشَادِ وَهُوَ الْحَقُّ، وَاتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى أَنَّ فِيهَا مَفَاسِدَ، فَالْمَانِعُونَ نَظَرُوا إلَيْهَا فَأَطْلَقُوا مَنْعَهَا نَظَرًا لِلْعَادَةِ الْمُحَقَّقَةِ لَهَا غَالِبًا، وَالْمُجَوِّزُونَ لَهَا نَظَرُوا إلَى أَنَّهَا مَوْهُومَةٌ مَعَ أَنَّ الْحَاجَةَ إذَا حَقَّتْ مَنَعَتْ النَّظَرَ إلَيْهَا، وَقَدْ صَرَّحَ الْأَئِمَّةُ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى النَّاظِرِ الِاحْتِيَاطُ فِي الْإِجَارَةِ وَفِي حِفْظِ الْأُصُولِ، وَلَا يَتِمُّ الِاحْتِيَاطُ فِي هَذَيْنِ فِي الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ إلَّا إنْ اُحْتِيجَ إلَيْهَا كَمَا ذُكِرَ، وَصَرَّحُوا أَيْضًا فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُتَصَرِّفِ عَلَى الْغَيْرِ أَنْ يُرَاعِيَ فِي تَصَرُّفِهِ الْأَغْبَطَ وَالْأَصْلَحَ، فَفِي مُدَدِ الْإِجَارَاتِ يَلْزَمُهُ رِعَايَةُ الْأَصْلَحِ مِنْهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُ الصَّالِحِ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلَحِ، فَلَا يَفْعَلُ الْإِجَارَةَ الطَّوِيلَةَ إلَّا إذَا تَحَقَّقَ كَوْنُهَا أَصْلَحَ.
وَذَكَرُوا أَيْضًا أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُسَجِّلُ نَحْوَ إجَارَتِهِ إلَّا إنْ ثَبَتَ مُسَوِّغُهَا عِنْدَهُ، وَهَذَا كُلُّهُ مُؤَيِّدٌ لِلْمُجَوِّزِينَ لِلْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ، بِشَرْطِ الْحَاجَةِ لِتَوَقُّفِ بَقَاءِ عَيْنِ الْوَقْفِ بِعِمَارَتِهِ أَوْ نَحْوِهَا عَلَيْهَا، فَلَا يَكْفِي مُجَرَّدُ زِيَادَةِ الْأُجْرَةِ، وَإِنْ كَثُرَتْ الزِّيَادَةُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ كَلَامُ الْوَلِيِّ أَبِي زُرْعَةَ فِي فَتَاوِيهِ وَسَبَقَهُ إلَى نَحْوِهِ الْخُوَارِزْمِيُّ فِي كَافِيهِ وَابْنُ رَزِينٍ صَاحِبُ ابْنِ الصَّلَاحِ، وَفَرْضُ كَلَامِهِ فِي إجَارَةِ ثَلَاثِينَ سَنَةً، فَمَا الظَّنُّ بِمِائَةٍ؟ وَنَحَا إلَى ذَلِكَ السُّبْكِيّ وَالْبُلْقِينِيُّ، بَلْ الرَّافِعِيُّ فِي الْعَزِيزِ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَلْفَاظِ الْوَجِيزِ، وَجَزَمَ بِهِ شَارِحُ الْإِرْشَادِ الرَّدَّادُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ فَتَاوِيهِ، وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ مَا ذَكَرُوهُ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْمَحْجُورِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ بِإِجَارَةٍ، كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ إجَارَةِ الْوَقْفِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْإِصْطَخْرِيُّ مِنْ أَكَابِرِ أَصْحَابِنَا وَاعْتَمَدَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ فِي الْمَطْلَبِ: إيجَارُ الْمَوْقُوفِ عَلَى مُعَيَّنٍ مُشَبَّهٌ بِإِيجَارِ مِلْكِ الْيَتِيمِ أَوْ بَيْعِهِ فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْعَقَارِ فَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ أَوْ فِي الْعَقَارِ فَلَا بُدَّ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ مِنْ أَنْ يَجِدَ مِثْلَهُ بِبَعْضِ الثَّمَنِ أَوْ خَيْرًا مِنْهُ بِكُلِّ الثَّمَنِ، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ جَرَيَانُ نَظِيرِهِ هُنَا؛ لِأَنَّ مَدَارَ ذَلِكَ عَلَى التِّجَارَةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِإِخْرَاجِ مَا فِي الْيَدِ لِأَصْلَحَ مِنْهُ، وَلَا يَكُونُ فِي الْعَقَارِ إلَّا بِمَا ذُكِرَ وَهُنَا عَلَى حِفْظِ عَيْنِ الْوَقْفِ وَعَدَمِ تَطَرُّقِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ مَا أَمْكَنَ
فَاتَّضَحَ فُرْقَانُ مَا بَيْنَ الْبَابَيْنِ وَأَنَّهُ لَا جَامِعَ بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ، فَالزِّيَادَةُ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ لَا أَثَرَ لَهَا مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ مَتَى وُجِدَتْ مَصْلَحَةٌ أَوْ حَاجَةٌ جَازَتْ الْإِجَارَةُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، وَمَتَى انْتَفَى كُلٌّ مِنْ الْمَصْلَحَةِ وَالْحَاجَةِ امْتَنَعَتْ الْإِجَارَةُ، وَإِنْ زَادَتْ الْأُجْرَةُ، وَإِنَّمَا اكْتَفَيْنَا فِي الْقَصِيرَةِ بِمُجَرَّدِ الْمَصْلَحَةِ، وَاشْتَرَطْنَا فِي الطَّوِيلَةِ الْحَاجَةَ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ فِي الطَّوِيلَةِ مَفَاسِدَ فَلَمْ تَجُزْ، إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ؛ لِأَنَّ مَا جَازَ لِحَاجَةٍ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا.
وَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ أَعَمُّ مِنْ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ فَلَا يَسْتَلْزِمُهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْأَئِمَّةُ مِنْهُمْ السُّبْكِيّ فِي كِتَابِهِ الْمُسْتَوْعِبِ وَغَيْرِهِ، وَصَرَّحَ أَيْضًا بِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ فِي عَقْدٍ لَيْسَ حُكْمًا بِوُجُودِ شُرُوطِهِ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ، بِخِلَافِ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ وَعَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ الْحُكْمَيْنِ مُتَرَادِفَانِ، فَلَا يَنْفَعُ ذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَمْ يَحْكُمْ بِالْمُوجَبِ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إلَى شَيْءٍ، وَإِلَّا نَزَلَ حُكْمُهُ عَلَى السَّدَادِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ دَقِيقٍ الْعِيدِ، وَإِنَّمَا حَكَمَ مُسْتَنِدًا إلَى شَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمُسْتَنَدِ، وَشَهَادَتُهُمَا إنَّمَا هِيَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْمُسَوِّغَةَ لِلْإِجَارَةِ كَوْنُ الْأُجْرَةِ أُجْرَةَ الْمِثْلِ وَزِيَادَةً، وَقَدْ سَبَقَ كَلَامُ الْأَئِمَّةِ أَنَّ هَذِهِ وَحْدَهَا لَا تَكُونُ مَصْلَحَةً مُسَوِّغَةً لِلْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ
وَإِذَا اسْتَنَدَ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ إلَيْهَا وَحْدَهَا بَانَ أَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ مَوْقِعَهُ، فَإِذَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute