للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثَبَتَ عِنْدَ حَاكِمٍ آخَرَ أَنْ لَا مَصْلَحَةَ فِي تِلْكَ الْإِجَارَةِ أَبْطَلَهَا وَلَا نَقْضَ فِي ذَلِكَ لِحُكْمِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ اسْتِنَادَهُ لِمَا لَا يُسَوِّغُهُ صَيَّرَهُ لَغْوًا فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ، بَلْ لَوْ فُرِضَ أَنَّ الشَّاهِدَ أَطْلَقَ الْمَصْلَحَةَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي إيجَارِ كَذَا لَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَقْبَلَ هَذَا مِنْهُ، بَلْ يَلْزَمُهُ اسْتِفْسَارُهُ كَمَا أَفْهَمَهُ كَلَامُ الْأَئِمَّةِ بَلْ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي الْأُمِّ وَالْمُخْتَصَرِ؛ لِأَنَّ الْمَصَالِحَ مُخْتَلِفَةٌ وَتَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ، وَلَا يَأْتِي هُنَا الْخِلَافُ فِي إطْلَاقِ الشَّاهِدِ اسْتِحْقَاقَ زَيْدٍ عَلَى عَمْرٍو مِائَةً عُرِفَ سَبَبُهَا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ ثَمَّ عَلَى آدَمِيٍّ بَرْهَنَ هُوَ أَوْ وَارِثُهُ عَلَى رَدِّهَا.

وَسَبَبُهَا كَالْإِقْرَارِ لَا يَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ، بِخِلَافِهَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ الْمَلِكَ فِي الْمَوْقُوفِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأَسْبَابُ الْمَصَالِحِ مُخْتَلِفَةٌ فَوَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ لَا يَقْبَلَ الشَّهَادَةَ بِمُطْلَقِ الْمَصْلَحَةِ احْتِيَاطًا لِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَقَدْ صَرَّحُوا بِوُجُوبِ الِاسْتِفْسَارِ عَلَيْهِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ، وَمَسْأَلَتُنَا هَذِهِ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ أَكْثَرِهَا كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مُتَأَمِّلٍ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْمَصْلَحَةِ الْوَاقِعَةِ فِي لَفْظِ الشَّاهِدِ وَالْوَاقِعَةِ فِي لَفْظِ الْحَاكِمِ فَلَوْ قَالَ الْحَاكِمُ: حَكَمْتُ بِصِحَّةِ الْإِجَارَةِ أَوْ بِمُوجَبِهَا لِثُبُوتِ الْمَصْلَحَةِ عِنْدِي لَمْ يَقْدَحْ فِي حُكْمِهِ عَدَمُ بَيَانِهَا، بَلْ لَوْ حَذَفَهَا بِالْكُلِّيَّةِ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ أَيْضًا كَمَا مَرَّ عَنْ ابْنِ دَقِيقٍ الْعِيدِ، وَسَبَقَهُ إلَيْهِ ابْنُ أَبِي عَصْرُونَ حَمْلًا لِحُكْمِ الْحَاكِمِ عَلَى السَّدَادِ مَا أَمْكَنَ.

وَأَمَّا إذَا أَسْنَدَ الْحَاكِمُ حُكْمَهُ إلَى شَهَادَةٍ بِمُطْلَقِ مَصْلَحَةٍ أَوْ بِمَصْلَحَةٍ، لَا تُعَدُّ فِي مَذْهَبِهِ مَصْلَحَةً، فَيَكُونُ حُكْمُهُ لَغْوًا وَجَهْلًا مِنْهُ، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَأَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ لِمَا يُرْضِيهِ عَنِّي وَأَنْ يُجِيرَنِي مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ وَمِحْنَةٍ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ إنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَدِيرٌ وَبِالْإِجَابَةِ جَدِيرٌ وَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَإِلَيْهِ أَفْزَعُ فِي الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، وَ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: ٤٣] وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أَوَّلًا وَآخِرًا حَمْدًا يُوَافِي نِعَمَهُ وَيُكَافِئُ مَزِيدَهُ، يَا رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ كَمَا يَنْبَغِي لِجَلَالِ وَجْهِك وَعَظِيمِ سُلْطَانِك حَمْدًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ عَدَدَ خَلْقِك وَرِضَاءَ نَفْسِكَ وَزِنَةَ عَرْشِك وَمِدَادَ كَلِمَاتِك، وَسُبْحَانَ اللَّهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ عَدَدَ مَعْلُومَاتِك وَمِدَادَ كَلِمَاتِك، كُلَّمَا ذَكَرَك وَذَكَرَهُ الذَّاكِرُونَ وَغَفَلَ عَنْ ذِكْرِك وَذِكْرِهِ الْغَافِلُونَ، {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: ١٨٠] {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: ١٨١] {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: ١٨٢]

(مَسْأَلَةٌ: سُئِلْتُ) عَنْ كِتَابِ وَقْفٍ عَلَى النَّفْسِ لِمِيَاهٍ وَأَرَاضٍ فِي مَرِّ الظَّهْرَانِ حَكَمَ بِمُوجَبِهِ حَنَفِيٌّ ثُمَّ مَاتَ قَاضِيهِ وَشُهُودُهُ فَأَثْبَتَهُ الْحَاكِمُ الْمَالِكِيُّ بِطَرِيقِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ فَوَضَعَ إنْسَانٌ يَدَهُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا فِيهِ مِنْ الْمَاءِ مُدَّةً مَدِيدَةً بِطَرِيقِ الشِّرَاءِ وَحَكَمَ بِمُوجَبِهِ شَافِعِيٌّ ثُمَّ ثَبَتَ الْوَقْفُ الْمَذْكُورُ فَانْتَزَعَ ذَلِكَ الْمَاءَ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي وَأَرَادَ نَاظِرُ الْوَقْفِ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ بِغَلَّةِ ذَلِكَ الْمَاءِ لَدَى شَافِعِيٍّ فَهَلْ لَهُ سَمَاعُ هَذِهِ الدَّعْوَى عَمَلًا بِمَذْهَبِهِ أَنَّ مَاءَ عُيُونِ مَرِّ الظَّهْرَانِ مَمْلُوكٌ لِوَاضِعِي الْأَيْدِي عَلَيْهِ فَيُضْمَنُ بِمِثْلِهِ أَوْ قِيمَتِهِ عَلَى مَا حَرَّرُوهُ فِي الْغَصْبِ أَمْ لَا؟ نَظَرًا لِحُكْمِ الشَّافِعِيِّ بِالشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ بَانَ فَسَادُهُ

وَبِتَبَيُّنِ فَسَادِهِ يَتَبَيَّنُ بُطْلَانُ الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ مِنْ أَصْلِهِ، أَوْ لَيْسَ لَهُ سَمَاعُهَا نَظَرًا لِحُكْمِ الْحَاكِمِ الْحَنَفِيِّ بِالْمُوجَبِ بِنَاءً عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ بَعْضُ مُفْتِيِي مَذْهَبِهِ أَنَّ الْمَاءَ الْمَوْقُوفَ مَضْمُونٌ، بِخِلَافِ الْمَمْلُوكِ، لَكِنْ خَالَفَهُ مُفْتٍ آخَرُ مِنْهُمْ فَقَالَ: الْمَاءُ الْمَحْضُ لَا يُضْمَنُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ الْمَوْقُوفُ وَغَيْرُهُ، أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ مَعَ الْبَسْطِ التَّامِّ، فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ مُشْكِلَةٌ جِدًّا (فَأَجَبْتُ) : بِأَنَّ الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَسْتَدْعِي بَسْطًا، فَلَا تَضْجَرْ مِنْهُ، فَإِنَّ فِيهِ فَوَائِدَ نَفِيسَةً لَا تَظْفَرُ بِهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَحَلِّ، وَلْنَجْعَلْهُ فِي أُمُورٍ، لَكِنَّ بَعْضَهَا مُقَدِّمَاتٌ وَبَعْضُهَا مَقَاصِدُ أَحَدُهَا تَحْرِيرُ مَاءِ عُيُونِ مَرِّ الظَّهْرَان وَغَيْرِهِ مِنْ أَوْدِيَةِ الْحِجَازِ هَلْ هُوَ مِلْكٌ لِأَهْلِهَا أَوْ مُسْتَحَقٌّ فَقَطْ فَلَا يُضْمَنُ؟

وَاَلَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ أَئِمَّتِنَا الثَّانِي وَعِبَارَةُ الْمِنْهَاجِ وَشَرْحِي عَلَيْهِ وَالْمِيَاهُ الْمُبَاحَةُ بِأَنْ لَمْ تُمَلَّكْ مِنْ الْأَوْدِيَةِ كَالسَّيْلِ وَالْعُيُونِ فِي الْجِبَالِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْمَوَاتِ وَسُيُولِ الْأَمْطَارِ يَسْتَوِي النَّاسُ فِيهَا لِخَبَرِ أَبِي دَاوُد: «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ الْمَاءِ وَالْكَلَإِ وَالنَّارِ» وَصَحَّ خَبَرِ «ثَلَاثَةٌ لَا يُمْنَعْنَ الْمَاءُ وَالْكَلَأَ وَالنَّارُ» فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>