تَحَجُّرُهَا وَلَا لِلْإِمَامِ إقْطَاعُهَا إجْمَاعًا، ثُمَّ قُلْتُ: وَلَيْسَ مِنْ الْمُبَاحَةِ مَا جُهِلَ أَصْلُهُ وَهُوَ تَحْتَ يَدِ وَاحِدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ؛ لِأَنَّ الْيَدَ دَلِيلُ الْمِلْكِ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَمَحَلُّهُ إذَا كَانَ مَنْبَعُهُ مِنْ مَمْلُوكٍ لَهُمْ، بِخِلَافِ مَا مَنْبَعُهُ بِمَوَاتٍ أَوْ يَخْرُجُ مِنْ نَهْرٍ عَامٍّ كَدِجْلَةَ، فَإِنَّهُ بَاقٍ عَلَى إبَاحَتِهِ اهـ.
وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ مَاءَ عُيُونِ مَرِّ الظَّهْرَانِ وَنَحْوِهِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْعُيُونَ مَنَابِعُهَا غَائِصَةٌ فِي جِبَالٍ مُبَاحَةٍ لَا يُعْلَمُ مُنْتَهَى تِلْكَ الْمَنَابِعِ وَلَا أَصْلُهَا، وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِيَاهٌ مِنْ أَسْفَلَ تِلْكَ الْجِبَالِ، وَقَدْ جِيءَ إلَى ذَلِكَ الْأَسْفَلِ، وَبُنِيَ عَلَيْهِ جُدْرَانٌ بَيْنَهُمَا قَنَاةٌ، فَإِذَا خَرَجَ الْمَاءُ مِنْ ذَلِكَ السُّفْلِ جَرَى بَيْنَ هَذَيْنِ الْجِدَارَيْنِ إلَى أَنْ يُسَلَّطَ عَلَى أَرَاضٍ يَسْقِيهَا.
وَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ الْمَنَابِعُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ تَعَيَّنَ الْقَوْلُ بِأَنَّهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ، كَمَا شَمِلَهُ قَوْلُ الْمِنْهَاجِ " وَالْعُيُونُ فِي الْجِبَالِ " وَقَوْلُ الْأَذْرَعِيِّ: وَمَحَلُّهُ إنْ كَانَ مَنْبَعُهُ فِي غَيْرِ مَمْلُوكٍ لَهُمْ إلَى آخِرِهِ، وَتَأَمَّلْ حِكَايَتَهُمْ الْإِجْمَاعَ، عَلَى أَنَّ مَاءَ الْعُيُونِ فِي الْجِبَالِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ تَحَجُّرُهَا الصَّرِيحُ فِي بَقَائِهَا عَلَى إبَاحَتِهَا، وَإِنْ بَنَى عَلَيْهَا وَحَجَّرَ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْبِنَاءَ عَلَى تِلْكَ الْعُيُونِ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ إسْلَامِيٌّ، بَلْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ جَاهِلِيٌّ، فَلَا يُسْتَدَلُّ بِوُجُودِهِ لِلْمِلْكِ وَلَا لِعَدَمِهِ، وَمِمَّا يَدُلُّ لِمَا ذَكَرْته أَوَّلًا تَصْرِيحُهُمْ: بِأَنَّ الْمَاءَ النَّابِعَ فِي الْمُبَاحِ كَالْمَعْدِنِ الظَّاهِرِ، فَلَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ، وَلَا يَثْبُتُ فِيهِ الِاخْتِصَاصُ بِالتَّحَجُّرِ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ الْمَنَابِعَ فِي جِبَالٍ مُبَاحَة، فَلَا تُمْلَكُ بِإِحْيَاءٍ وَلَا يَخْتَصُّ بِهَا بِتَحَجُّرٍ، وَبِهَذَا صَحَّ الْحَدِيثُ وَقَامَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ أَمَّا الْحَدِيثُ: فَهُوَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْطَعَ رَجُلًا مِلْحَ مَأْرَبِ أَيْ مَدِينَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ صَنْعَاءَ كَانَتْ بِهَا بِلْقِيسُ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ كَالْمَاءِ الْعِدِّ أَيْ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ لَا انْقِطَاعَ لِمَنْبَعِهِ فَقَالَ: فَلَا إذْنَ» فَعُلِمَ أَنَّ الْمَاءَ الْعِدَّ وَهُوَ الَّذِي لَا انْقِطَاعَ لِمَنْبَعِهِ لَا يُمْلَكُ، وَتِلْكَ الْمَنَابِعُ مِنْ أَفْرَادِ هَذَا الْمَاءِ، فَلَا يُمْلَكُ، وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَهُوَ قَوْلُهُمْ: أَجْمَعُوا عَلَى مَنْعِ إقْطَاعِ مَشَارِعِ الْمَاءِ أَيْ الَّتِي مِنْهَا مَنَابِعُهُ، وَعَبَّرُوا أَيْضًا بِقَوْلِهِمْ: الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى مَنْعِ إقْطَاعِ مَشَارِعِ الْمَاءِ، فَكَذَا الْمَعْدِنُ الظَّاهِرُ بِجَامِعِ الْحَاجَةِ الْعَامَّةِ اهـ.
وَبَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ لَمْ يَبْقَ لِمُنَازِعٍ فِيمَا ذَكَرْته حُجَّةٌ يَتَمَسَّكُ بِهَا فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ كُلَّهُ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ أَيُّ مُهِمٍّ. ثُمَّ رَأَيْتُ الْبُلْقِينِيُّ صَرَّحَ بِمَا ذَكَرْتُهُ فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ عُيُونِ مَرِّ الظَّهْرَانِ، وَأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ لَهَا مَنْبَعٌ غَالِبًا
فَأَجَابَ فِيهَا بِجَوَابٍ طَوِيلٍ مُسَطَّرٍ فِي فَتَاوِيهِ، وَمِنْ جُمْلَتِهِ وَمَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ مِنْ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ الْأَصْلُ الَّذِي يَنْبُعُ مِنْهُ غَالِبًا جَوَابُهُ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُ الْمَاءِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ اهـ. فَفِيهِ أَوْضَحُ تَصْرِيحٍ بِمَا ذَكَرْته مِنْ أَنَّ مَاءَ الْعُيُونِ الَّتِي لَا يُعْرَفُ مَنْبَعُهَا يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى إبَاحَتِهِ وَإِنْ وَصَلَ إلَى تِلْكَ الْقَنَاةِ.
وَخَرَجَ مِنْهَا كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ قَوْلُهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَمَّا الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ أَنْ لَا يَكُونَ مَحَلُّ النَّبْعِ مَمْلُوكًا لِأَحَدٍ، وَإِنَّمَا الْمَمْلُوكُ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَصِلُ الْمَاءُ إلَيْهِ فَإِذَا صَدَرَ بَيْعٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى الْمَاءِ الْكَائِنِ فِي الْأَرْضِ، فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ.
وَلِهَذَا إذَا خَرَجَ مِنْ أَرْضِهِ كَانَ عَلَى إبَاحَتِهِ، وَإِذَا بَاعَ الْقَرَارَ لَمْ يَدْخُلْ الْمَاءُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ اسْتِحْقَاقُ الْأَرْضِ فِيهِ الْمُسَمَّى بِالشِّرْبِ اهـ. الْمَقْصُودُ مِنْهُ وَرَأَيْتُ السُّبْكِيّ قَالَ فِي فَتَاوِيهِ مَا حَاصِلُهُ: لَا أَشُكُّ فِي نَهْرِ دِمَشْقَ الْمُسَمَّى بِبَرَدَا أَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِأَنَّهُ قَدِيمٌ بِأَرْضِهِ، وَالْعَيْنُ الَّتِي يَجْرِي الْمَاءُ فِيهَا إمَّا مُبَاحَةٌ وَهُوَ الظَّاهِرُ وَإِمَّا كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِكُفَّارٍ وَانْتَقَلَتْ عَنْهُمْ إلَى مُسْلِمِينَ، وَأَيَّا مَا كَانَ فَلَيْسَ مِلْكًا لِأَحَدٍ، وَبَقِيَّةُ أَنْهَارِهَا الظَّاهِرُ أَنَّهَا أَيْضًا كَذَلِكَ وَأَنَّهَا مُتَقَدِّمَةٌ، وَيُحْتَمَلُ حُدُوثُهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا كَانَ بِانْخِرَاقٍ فِي مَوَاتٍ فَلَيْسَ بِمَمْلُوكٍ وَمَا كَانَ بِحَفْرٍ، بِأَنْ قَصَدَ بِهِ حَافِرُهُ الْإِبَاحَةَ فَكَذَلِكَ أَوْ نَفْسَهُ فَمِلْكٌ لَهُ، لَكِنَّا الْآنَ لَا نَعْلَمُهُ هُوَ وَلَا وَارِثُهُ فَهُوَ لِعُمُومِ الْمُسْلِمِينَ.
وَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ: لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ تَخْصِيصُ طَائِفَةٍ بِجَمِيعِهِ وَلَا بَيْعُهُ، بِخِلَافِ الْأَمْلَاكِ الْمُنْتَقِلَةِ إلَى بَيْتِ الْمَالِ الَّتِي يَبِيعُ فِيهَا وَيُعْطِي مِنْهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَنْهَارَ نَفْعُهَا عَامٌّ دَائِمٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَجُزْ تَفْوِيتُهَا عَلَيْهِمْ بِالتَّخْصِيصِ أَوْ الْبِيَعِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا.
وَمَتَى جُهِلَ الْحَالُ هَلْ هُوَ بِانْخِرَاقٍ أَوْ حَفْرٍ فَهُوَ لِعُمُومِ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا. وَقَوْلُهُمْ: لَوْ رَأَيْنَا نَهْرًا يُسْقَى بِهِ أَرَضُونَ، وَلَمْ