يُدْرَ أَنَّهُ حُفِرَ أَوْ انْخَرَقَ، حَكَمْنَا بِأَنَّهُ مِلْكُهُمْ مَحَلُّهُ إذَا كَانَتْ أَيْدِيهِمْ الْخَاصَّةُ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْأَمْلَاكِ أَيْ: بِأَنْ كَانُوا مُسْتَوْلِينَ عَلَى مَنْبَعِهَا وَمَا بَعْدَهُ نَظِيرُ مَا مَرَّ عَنْ الْأَذْرَعِيِّ. اهـ الْمَقْصُودُ مِنْهُ وَهُوَ صَرِيحٌ فِيمَا قَدَّمْتُهُ فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ قَالَ: وَالْمَاءُ الَّذِي يَمُرُّ فِي تِلْكَ الْأَنْهَارِ مُبَاحٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ أَيْ: لِأَنَّ مَنْبَعَهَا غَيْرُ مَمْلُوكٍ بَلْ وَلَا مَعْرُوفٍ ثَانِيهِمَا: تَحْرِيرُ حُكْمِ مَا إذَا اجْتَمَعَ فِي قَضِيَّةٍ أَحْكَامٌ مُتَنَاقِضَةٌ كَمَا فِي صُورَةِ السُّؤَالِ، فَإِنَّهَا مِنْ الْعَوِيصَاتِ الَّتِي تَحْتَاجُ إلَى مَزِيدِ تَتَبُّعٍ لِكَلَامِ الْأَئِمَّةِ وَاطِّلَاعٍ عَلَى فَتَاوِيهِمْ وَمُؤَلَّفَاتِهِمْ فِي الْأَقْضِيَةِ وَأَحْكَامِ الْقُضَاةِ الْمُتَعَارِضَةِ بِالْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَسَبَبُ إشْكَالِهَا أَنَّ الْحُكْمَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ لَا يَقُولُ بِهِ الْحَنَفِيُّ الْحَاكِمُ بِالْوَقْفِ الَّذِي أَثْبَتَ حُكْمَهُ بِطَرِيقِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ.
وَالْحَاكِمُ إذَا أَثْبَتَ حُكْمَهُ بِطَرِيقٍ لَا يَقُولُ بِهَا، كَيْفَ يُعْتَدُّ بِذَلِكَ الْإِثْبَاتِ الْمُنَاقِضِ لِمَذْهَبِ الْمُثْبَتِ حُكْمَهُ، وَأَيْضًا الشَّافِعِيُّ الْمُتَدَاعَى عِنْدَهُ بِضَمَانِ الْمَاءِ لَا يَرَى مَا يَثْبُتُ بِهِ الْوَقْفُ وَلَا الْوَقْفُ عَلَى النَّفْسِ وَلَا وَقْفُ الْمَاءِ وَحْدَهُ، وَإِنْ حَكَمَ بِمِلْكِهِ.
وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَدَاعَى فِيهَا إنَّمَا هِيَ مَاءٌ مُجَرَّدٌ ثَبَتَ وَقْفُهُ، وَحِينَئِذٍ فَالشَّافِعِيُّ هُنَا لَا يُمْكِنُهُ الْحُكْمُ بِمَذْهَبِ إمَامِهِ وَلَا بِمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ، لِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ الْحَنَفِيِّ فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنَّ الْحُكْم بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ لَا يُعْمَلُ بِهِ إلَّا إنْ كَانَ الْحَاكِمُ بِالْوَقْفِ مَالِكِيًّا؛ لِأَنَّهُ يَرَى ثُبُوتَ حُكْمِهِ هَذَا بِتِلْكَ الطَّرِيقِ وَإِلْزَامَ الْعَمَلَ بِهِ، فَتَنْتِفِي وَصْمَةُ التَّلْفِيقِ حِينَئِذٍ بِخِلَافِ مَا لَوْ أُثْبِتَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ حُكْمُ حَنَفِيٍّ أَوْ شَافِعِيٍّ، فَإِنَّ الْعَمَلَ بِآثَارِ هَذَا الْحُكْمِ الْمُثْبَتِ عَمَلٌ بِحُكْمَيْنِ مُلَفَّقَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ لَا يَقُولُ بِهِمَا إمَامٌ وَاحِدٌ الْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ وَالْحُكْمِ بِالْوَقْفِ عَلَى النَّفْسِ وَوَقْفِ الْمَاءِ الْمُسْتَقِلِّ.
وَكَذَلِكَ حُكْمُ الشَّافِعِيِّ بِضَمَانِ الْمَاءِ فِي صُورَةِ السُّؤَالِ مُلَفَّقٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ مُتَنَاقِضَةٍ، بَلْ أَرْبَعَةٍ الْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ وَلَا يَقُولُ بِهِ الْحَنَفِيُّ وَلَا الشَّافِعِيُّ، وَالْحُكْمِ بِالْوَقْفِ عَلَى النَّفْسِ وَلَا يَقُولُ بِهِ الْمَالِكِيُّ وَلَا الشَّافِعِيُّ، وَالْحُكْمِ بِوَقْفِ الْمَاءِ الْمُسْتَقِلِّ وَلَا يَقُولُ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَلَا الْحَنَفِيُّ، وَالْحُكْمِ بِضَمَانِ الْمَاءِ لَا يَقُولُ بِهِ الْمَالِكِيُّ وَلَا الْحَنَفِيُّ، ثُمَّ رَأَيْت ابْنَ الْعِمَادِ ذَكَرَ مَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْتُهُ بَلْ مَا يُصَرِّحُ بِهِ فَإِنَّهُ قَالَ كَمَا حَكَيْته عَنْهُ فِي كِتَابِي فِي إجَارَة الْأَوْقَافِ هُنَا
(فَائِدَةٌ) يَنْبَغِي التَّنَبُّهُ لَهَا وَهِيَ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُلَفَّقَ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَصَوَّرُوا ذَلِكَ بِصُوَرٍ مِنْهَا أَنْ يَحْكُمَ حَنْبَلِيٌّ بِأَنَّ الْخُلْعَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَسْخٌ فَعِنْدَهُ يَجُوزُ إعَادَةُ الْمُخْتَلِعَةِ مِنْ غَيْرِ مُحَلِّلٍ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ إلَّا بِمُحَلِّلٍ فَلَوْ أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بَعْدَ حُكْمِ الْحَنْبَلِيِّ بِأَنَّ ذَلِكَ فَسْخٌ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِلَا مُحَلِّلٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الزَّوَاجِ حِينَئِذٍ بَاطِلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَكَيْفَ يَتَعَاطَاهُ؟ فَإِذَا تَعَاطَاهُ نُقِضَ بِخِلَافِ مَا لَوْ تَعَاطَاهُ حَنْبَلِيٌّ وَمِنْهَا لَوْ حَكَمَ مَالِكِيٌّ بِثُبُوتِ الْوَقْفِ عَلَى النَّفْسِ بِالْخَطِّ، وَحَكَمَ حَنَفِيٌّ بِصِحَّتِهِ فَهَذَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ بَاطِلٌ الْآنَ بِاتِّفَاقِ الْحَاكِمَيْنِ الْمَالِكِيِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَقْفٌ عَلَى النَّفْسِ وَالْحَنْبَلِيِّ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِالْخَطِّ، وَهَذَا كُلُّهُ مَقِيسٌ عَلَى مَا لَوْ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ بَعْضَ رَأْسِهِ مُقَلِّدًا لِلشَّافِعِيِّ ثُمَّ صَلَّى وَبِهِ نَجَاسَةٌ كَلْبِيَّةٌ مُقَلِّدًا لِمَالِكٍ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَلِّهَا عَلَى مَذْهَبِ مُجْتَهِدٍ وَاحِدٍ، بَلْ رَكَّبَ فِيهَا قَوْلَ مُجْتَهِدٍ مَعَ قَوْلِ آخَرَ، فَصَارَ كُلٌّ مِنْ الْإِمَامَيْنِ قَائِلًا بِبُطْلَانِهَا الشَّافِعِيِّ مِنْ جِهَةِ النَّجَاسَةِ وَمَالِكٍ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ مَسْحِ الرَّأْسِ.
قَالَ ابْنُ الْعِمَادِ فَكَذَلِكَ الْقَاضِي لَمَّا لَفَّقَ قَوْلَ مُجْتَهِدٍ مَعَ مُجْتَهِدٍ آخَرَ نُقِضَ حُكْمُهُ، قَالَ وَكَثِيرٌ مِنْ الْقُضَاةِ يَجِبُ عَزْلُهُمْ وَلَا تَحِلُّ تَوْلِيَتُهُمْ اهـ. كَلَامُهُ وَذَكَرَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ بِمَا لَفْظُهُ مِمَّا يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ الْمُلَفَّقُ وَهُوَ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَصُورَتُهُ أَنَّ الْقَاضِيَ الْمَالِكِيَّ يَرَى الْحُكْمَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ، فَإِذَا أَثْبَتَ الْخَطَّ وَحَكَمَ بِهِ وَاتَّصَلَ بِشَافِعِيٍّ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَنْقُضُهُ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مِثْلِ هَذَا فَاشْهَدْ أَيْ عَلَى مِثْلِ الشَّمْسِ
وَالْخَطُّ يَحْتَمِلُ التَّزْوِيرَ وَتَجْرِبَةَ الْقَلَمِ فَلَا يَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ وَلَا الْحُكْمُ بِهِ، فَلَوْ أَثْبَتَ الْخَطَّ قَاضٍ مَالِكِيٌّ وَلَمْ يَحْكُمْ وَأَنْهَاهُ إلَى قَاضٍ شَافِعِيٍّ، فَحَكَمَ بِالْخَطِّ لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ وَإِنْ حَكَمَ نُقِضَ حُكْمُهُ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا يَعْتَقِدُ جَوَازَ ذَلِكَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute