وَكَثِيرٌ مِنْ جَهَلَةِ الْقُضَاةِ الْمَنْسُوبِينَ إلَى الشَّافِعِيَّةِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَمِثْلُ هَؤُلَاءِ الْقُضَاةِ يَجِبُ عَزْلُهُمْ وَلَا تَحِلُّ تَوْلِيَتُهُمْ وَكَذَلِكَ الْحَنْبَلِيُّ إذَا حَكَمَ بِكَوْنِ الْخُلْعِ فَسْخًا لَيْسَ لِلْقَاضِي الشَّافِعِيِّ أَنْ يُزَوِّجَ مِنْ غَيْرِ مُحَلِّلٍ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ مُلَفَّقٌ، بَلْ الطَّرِيقُ أَنْ يُزَوِّجَ الْقَاضِي الْحَنْبَلِيُّ، وَكَذَلِكَ إذَا وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَثْبَتَ الْمَالِكِيُّ الْخَطَّ بِمَكْتُوبِ وَقْفٍ قَدْ مَاتَ شُهُودُهُ وَاتَّصَلَ بِقَاضٍ مُحَلِّلٍ شَافِعِيٍّ فَنَفَّذَهُ وَحَكَمَ بِصِحَّةِ الْخَطِّ لِيُمَيِّزَ ذَلِكَ لِلْقَاضِي الْحَنَفِيِّ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ لِلشَّافِعِيِّ تَعَاطِيهِ لِأَنَّهُ حُكْمٌ وَقَضَاءٌ مُلَفَّقٌ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِمَا إذَا تَوَضَّأَ وَذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ السَّابِقَةَ ثُمَّ قَالَ: وَكَذَلِكَ الْقَاضِي الْمُحَلِّلُ لَوْ لَفَّقَ قَوْلَ مُجْتَهِدٍ مَعَ قَوْلِ آخَرَ وَجَبَ نَقْضُ حُكْمِهِ اهـ.
فَعَلَى مَا قَرَّرَهُ لَا مِرْيَةَ فِي أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يَحْكُمُ فِي صُورَةِ السُّؤَالِ بِضَمَانِ الْمَاءِ وَلَا يَسْمَعُ الدَّعْوَى بِهِ، لَكِنْ رَأَيْت فِي فَتَاوَى السَّيِّدِ السَّمْهُودِيّ مَا يُعَكِّرُ عَلَى ابْنِ الْعِمَادِ وَيُصَرِّحُ بِأَنَّ عُلَمَاءَ مِصْرَ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَهُ وَأَنَّهُمْ لَا يَنْظُرُونَ لِهَذَا التَّلْفِيقِ، وَكَانَ وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ إذَا طَابَقَ بَاطِنُ الْأَمْرِ فِيهِ ظَاهِرَهُ يَنْفُذُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَيَصِيرُ كَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ وَمِنْ ثَمَّ قَالُوا: لَوْ حَكَمَ حَنَفِيٌّ مَثَلًا لِشَافِعِيٍّ بِمَا لَا يَرَاهُ الشَّافِعِيُّ كَشُفْعَةِ الْجِوَارِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ نَقْضِ حُكْمِهِ بِهَا وَهُوَ الْأَصَحُّ جَازَ لِلشَّافِعِيِّ الْأَخْذُ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يُقَلِّدْ أَبَا حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِأَنَّهَا صَارَتْ كَالْمُجْمَعِ عَلَيْهَا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ الصَّلَاحِ فِي حَنَفِيٍّ حَكَمَ بِصِحَّةِ وَقْفٍ عَلَى النَّفْسِ يَجُوزُ لِلشَّافِعِيِّ بَيْعُهُ وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُغَيِّرُ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْأَئِمَّةُ الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى الضَّعِيفِ، بِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يَنْفُذُ بَاطِنًا كَمَا يَشْهَدُ لِذَلِكَ تَعْلِيلُهُ وَزَعْمُهُ أَعْنِي ابْنَ الْعِمَادِ أَنَّ حُكْمَ الْمَالِكِيِّ بِالْخَطِّ يُنْقَضُ لِمُخَالَفَتِهِ لِلسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّعِيفِ
إذْ الْمُعْتَمَدُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ كَالْحُكْمِ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ وَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَالْبُطْلَانِ فِي الْعَرَايَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا صَحَّتْ الْأَحَادِيثُ بِخِلَافِهِ عَدَمُ النَّقْضِ، وَإِنْ أَطَالَ جَمْعٌ فِي خِلَافِهِ لِأَنَّ تَأْوِيلَ الْمُخَالِفِ فِيهَا لَهُ وَجْهٌ وَمَنْ كَانَ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ لَا يُنْقَضُ حُكْمُهُ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ «عَلَى مِثْلِ هَذَا فَاشْهَدْ» لَا يَرِدُ عَلَى الْمُخَالِفِ أَصْلًا؛ لِأَنَّا اتَّفَقْنَا نَحْنُ وَهُوَ عَلَى أَنَّهُ تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْخَطَّ الْمَعْرُوفَ يُفِيدُ ذَلِكَ فَأُرِيدَ بِمِثْلِيَّةِ الشَّمْسِ مَا يُفِيدُ الظَّنَّ الْمُؤَكَّدَ أَوْ الْعِلْمَ، فَلَا يُخَالِفُ مَذْهَبَ الْمُخَالِفِ الْحَدِيثُ وَسَيَأْتِي فِي كَلَامِ السُّبْكِيّ آخِرَ الْكِتَابِ مَا يُبَيِّنُ لَك عَدَمَ النَّقْضِ فِيمَا حَكَمَ بِهِ الْمَالِكِيُّ مِنْ الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ وَغَيْرِهِ فَرَاجِعْهُ، بَلْ فِي فَتَاوَى السُّبْكِيّ أَبْلَغُ صَرِيحٌ فِي الرَّدِّ عَلَى ابْنِ الْعِمَادِ.
وَذَلِكَ أَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ قَاضِيَ الْقُضَاةِ الشَّافِعِيَّ يَخْتَصُّ بِأُمُورٍ فِي زَمَنِهِ وَمَا قَبْلَهُ كَالنَّظَرِ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ وَفِي الْأَوْقَافِ وَالْأَيْتَامِ وَبَيْتِ الْمَالِ ثُمَّ قَالَ: لَوْ اعْتَقَدَ حَقِّيَّةَ وَصِيَّةٍ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا فِي مَذْهَبِهِ كَأَنْ قَامَتْ قَرَائِنُ بِصِحَّةِ مَسْطُورٍ عَلَى مَيِّتٍ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِقَاضٍ مَالِكِيٍّ لِيُثْبِتَهُ بِالْخَطِّ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَكَذَا فِي الْوَقْفِ عَلَى النَّفْسِ يَأْذَنُ لِحَنَفِيٍّ أَوْ حَنْبَلِيٍّ فِي إثْبَاتِهِ فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ يَنْبَغِي لِلشَّافِعِيِّ الْإِذْنُ فِي ذَلِكَ تَجِدْهُ أَبْلَغَ رَادٍّ عَلَى ابْنِ الْعِمَادِ، وَقَدْ ذَكَرَ السُّبْكِيّ فِي فَتَاوِيهِ أَنَّهُ نَفَّذَ كِتَابَ وَقْفِ صَلَاحِ الدِّينِ بْنِ أَيُّوبَ لِلصَّلَاحِيَّةِ الَّتِي بِالْقُدْسِ، وَذَلِكَ الْكِتَابُ لَمْ يَتَّصِلْ لِلسُّبْكِيِّ إلَّا بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِهِ مِمَّنْ يَرَاهُ تَارِيخُ وَقْفِهِ ثَالِثَ عَشَرَ رَجَبٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَتَارِيخُ تَنْفِيذِ السُّبْكِيّ شَهْرُ مُحَرَّمٍ سَنَةُ أَرْبَعِينَ وَسَبْعمِائَةٍ، فَبَيْنَهُمَا فَوْقَ مِائَةِ سَنَةٍ وَاثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَقَبْلَ السُّبْكِيّ تَلَامِيذُ جَمَاعَةٍ أَجِلَّاءٍ غَالِبُهُمْ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ إلَّا بِمَا وَصَلَ بِهِ لِلسُّبْكِيِّ، فَهَذَا إطْبَاقٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ بِتَقْرِيرِ الْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ بِالْخَطِّ وَتَنْفِيذِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَاحْتِمَالُ أَنَّ كُلًّا إنَّمَا نَفَّذَ بِتَنْفِيذِ مَنْ قَبْلَهُ الثَّابِتِ بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ، وَهَكَذَا إلَى الْوَاقِفِ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَإِنْ كَانَ فِي عِبَارَةِ السُّبْكِيّ مَا قَدْ يُتَلَمَّحُ مِنْهُ ذَلِكَ وَفِي الرَّوْضَةِ وَغَيْرِهَا وَجَزَمَ بِهِ مُخْتَصِرُوهَا وَغَيْرُهُمْ
بَلْ أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْمُتَأَخِّرُونَ أَنَّهُ لَوْ قَضَى حَنَفِيٌّ لِشَافِعِيٍّ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ حَلَّ لَهُ الْأَخْذُ بِهِ أَيْ: وَإِنْ لَمْ يُقَلِّدْ أَبَا حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يُصَيِّرُ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ كَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَتَوَقَّفْ الْحِلُّ عَلَى تَقْلِيدٍ إذْ لَوْ تَوَقَّفَ عَلَيْهِ لَقَالُوا: حَلَّ لَهُ الْأَخْذُ بِهِ إنْ قَلَّدَ إمَامَ ذَلِكَ الْقَاضِي، وَأَيْضًا فَالتَّقْلِيدُ نَفْسُهُ كَافٍ فِي الْحِلِّ فَلَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى حُكْمٍ فَنَتَجَ أَنَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute