التَّقْلِيدَ يُبِيحُ وَحْدَهُ وَحُكْمَ الْحَاكِمِ الْمُخَالِفِ يُبِيحُ وَحْدَهُ وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي شُفْعَةِ الْجِوَارِ مَعَ صِحَّةِ الْأَحَادِيثِ فِيهَا الَّتِي يَعْسُرُ تَأْوِيلُهَا وَلِذَا قَالَ كَثِيرُونَ: بِنَقْضِهِ فَالْحُكْمُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ أَوْلَى بِعَدَمِ النَّقْضِ إنْ لَمْ يَكُنْ مُسَاوِيًا وَمِمَّا يَدُلُّ لِمَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ الْحِلِّ بِالْحُكْمِ، وَإِنْ لَمْ يُقَلِّدْ أَنَّهُمْ أَطْلَقُوا الْحِلَّ هُنَا وَلَا تَكَلَّمُوا عَلَى حِلِّ الشَّهَادَةِ بِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيِّ، وَفَصَلَ الْإِسْنَوِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ بَيْنَ أَنْ يَشْهَدَ بِالْجِوَارِ فَيَحِلَّ أَوْ بِاسْتِحْقَاقِهَا فَلَا يَحِلُّ ذَلِكَ لِلشَّاهِدِ إلَّا إنْ قَلَّدَ أَبَا حَنِيفَةَ، هَذَا عَنْ الْحُكْمِ اُحْتِيجَ فِيهِ إلَى التَّقْلِيدِ
وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ قَالَ اثْنَانِ لِقَاضٍ: قَدْ حَكَمَ بَيْنَنَا فُلَانٌ الْقَاضِي فِي كَذَا بِكَذَا وَنُرِيدُ أَنْ تَحْكُمَ بَيْنَنَا بِمَذْهَبِك وَنَرْضَ بِحُكْمِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُ إجَابَتُهُمَا، بَلْ يُمْضِي حُكْمَ ذَلِكَ الْقَاضِي حَيْثُ كَانَ مِمَّا لَا يُنْقَضُ وَلَا يَجُوزُ لَهُ نَقْضُهُ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُنْقَضُ بِالِاجْتِهَادِ فَانْظُرْ إيجَابَهُمْ عَلَيْهِ أَنْ يُمْضِيَ حُكْمَ غَيْرِهِ الْمُخَالِفَ لِمَذْهَبِهِ وَأَنْ يُلْزِمَ بِهِ يَظْهَرْ لَك رَدُّ مَا قَالَهُ ابْنُ الْعِمَادِ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمُخْتَلَفِ فِيهِ يُصَيِّرُهُ كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمَحْكُومَ بِهِ بَعْدَ الْحُكْمِ يَصِيرُ كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فَحُكْمُ الْمَالِكِيِّ بِثُبُوتِ حُكْمِ الْحَنَفِيِّ أَوْ الشَّافِعِيِّ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ يُصَيِّرُ الْخَطَّ حِينَئِذٍ كَبَيِّنَةٍ شَهِدَتْ بِذَلِكَ الْحُكْمِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ، لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْحُكْمَ بِالشَّيْءِ يُصَيِّرُهُ كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فَلَا نَظَرَ حِينَئِذٍ إلَى كَوْنِ الْمَالِكِيِّ يَقُولُ بِالْحُكْمِ الَّذِي أَثْبَتَهُ، وَلَا إلَى أَنَّ الْمُخَالِفَ إذَا رُفِعَ إلَيْهِ حُكْمٌ لَا يَقُولُ بِهِ، كَيْفَ يُنَفِّذُهُ وَيَحْكُمُ بِهِ بِمُقْتَضَى مَذْهَبِهِ؟ وَلَا تَلْفِيقَ حِينَئِذٍ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَرِّعْ حُكْمَهُ عَلَى حُكْمٍ مُخَالِفٍ بَلْ عَلَى حُكْمٍ أُعْطِيَ حُكْمَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ.
وَبِهَذَا الَّذِي قَرَّرْتُهُ انْدَفَعَ قِيَاسُ ابْنِ الْعِمَادِ لِمَا نَحْنُ فِيهِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَسْأَلَةَ مَسْحِ الرَّأْسِ الَّتِي ذَكَرَهَا لَيْسَ فِيهَا حُكْمٌ بِأَحَدِ الْحُكْمَيْنِ يُصَيِّرُهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ فَفِيهَا التَّلْفِيقُ الْمُجْمَعُ عَلَى بُطْلَانِهِ، وَأَمَّا فِي مَسْأَلَتِنَا فَالْحُكْمُ الْأَوَّلُ صَارَ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ بِهِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، وَالْحُكْمُ الثَّانِي صَارَ كَذَلِكَ فَانْتَفَى التَّلْفِيقُ فَإِنْ قُلْت: مَا ذَلِكَ الَّذِي أَشَرْتَ إلَيْهِ أَوَّلًا أَنَّهُ يُعَكِّرُ عَلَى ابْنِ الْعِمَادِ وَيُصَرِّحُ بِأَنَّ عُلَمَاءَ مِصْرَ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَهُ قُلْت: قَوْلُهُ أَعْنِي السَّيِّدَ مَسْأَلَةٌ وَقَعَتْ بِمِصْرَ فِيمَنْ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى نَفْسِهِ وَذُرِّيَّتِهِ وَشَرَطَ فِيهِ أَنَّ لَهُ إدْخَالَ مَنْ شَاءَ وَإِخْرَاجَ مَنْ شَاءَ مَثَلًا وَحَكَمَ بِهِ حَنَفِيٌّ ثُمَّ أَدْخَلَ الْوَاقِفُ زَوْجَتَهُ ثُمَّ تُوُفِّيَ فَاسْتَحْكَمَتْ بِنْتُهُ مَالِكِيًّا مَثَلًا فَحَكَمَ بِانْحِصَارِ الْوَقْفِ فِيهَا وَمَنَعَ مَنْ يُعَارِضُهَا مَثَلًا فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ عُلَمَاءُ مِصْرَ فَأَفْتَى غَالِبُهُمْ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ: بِصِحَّةِ إدْخَالِ الزَّوْجَةِ نَظَرًا لِسَبْقِ حُكْمِ الْحَنَفِيِّ، وَأَفْتَى بَعْضُهُمْ بِأَنَّ حُكْمَ الْحَنَفِيِّ لَمْ يَتَنَاوَلْ إدْخَالَ الزَّوْجَةِ لِتَجَدُّدِهِ بَعْدَهُ، بَلْ هُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى حُكْمٍ، فَمَا الْمُعْتَمَدُ مِنْ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ؟ الْجَوَابُ: أَنَّ الْجَوَابَ الْأَوَّلَ هُوَ الْمُتَبَادَرُ إلَى الذِّهْنِ لِتَضَمُّنِ حُكْمِ الْحَنَفِيِّ صِحَّةَ اشْتِرَاطِ مَا ذُكِرَ وَإِذْنَهُ لِلْوَاقِفِ فِيمَا صَدَرَ عَنْهُ مِنْ الْإِدْخَالِ، لَكِنَّ التَّحْقِيقَ هُوَ الْجَوَابُ الثَّانِي، وَاسْتُدِلَّ لَهُ بِمَا قَالَهُ أَبُو زُرْعَةَ إنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ لَا يَتَنَاوَلُ مِنْ الْآثَارِ إلَّا مَا دَخَلَ وَقْتُهُ، وَإِدْخَالُ الزَّوْجَةِ لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُهُ عِنْدَ الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ تَجَدَّدَ بَعْدَ حُكْمِ الْحَنَفِيِّ.
وَنُقِلَ كَلَامُ أَبِي زُرْعَةَ فِي ذَلِكَ بِرُمَّتِهِ وَمَتْنِهِ، وَلْنَذْكُرْ مِثَالًا فِيهِ، وَهُوَ أَنَّ وَاقِفًا جَعَلَ لِنَفْسِهِ التَّغْيِيرَ وَالزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ وَحَكَمَ حَنَفِيٌّ بِمُوجَبِهِ، ثُمَّ وَقَعَ مِنْ الْوَاقِفِ التَّغْيِيرُ، هَلْ لِلشَّافِعِيِّ الْمُبَادَرَةُ بَعْدَ التَّغْيِيرِ إلَى الْحُكْمِ بِإِبْطَالِهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَالْمِثَالِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مَا دَخَلَ وَقْتُهُ فَيَمْتَنِعُ عَلَى الشَّافِعِيِّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَنَفِيِّ بِالْمُوجَبِ يَتَضَمَّنُ الْإِذْنَ لِلْوَاقِفِ فِي التَّغْيِيرِ فَقَدْ فَعَلَ مَا هُوَ مَأْذُونٌ لَهُ فِيهِ مِنْ حَاكِمٍ شَرْعِيٍّ، فَلَيْسَ لِحَاكِمٍ آخَرَ مَنْعُهُ وَلَا الْحُكْمُ بِإِبْطَالِهِ لَوْ وَقَعَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَالْمِثَالِ الثَّانِي، وَهُوَ مَا لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُهُ؛ لِأَنَّ التَّغْيِيرَ إلَى الْآنَ لَمْ يَقَعْ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إذْنِ الْحَنَفِيِّ لَهُ فِي التَّغْيِيرِ وُقُوعُهُ فَقَدْ يُغَيِّرُ وَقَدْ لَا، فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ. اهـ قَالَ السَّيِّدُ: فَجَعَلَ أَيْ أَبُو زُرْعَةَ تَخْرِيجَ ذَلِكَ عَلَى الْمِثَالِ الثَّانِي مُجَرَّدَ احْتِمَالٍ، وَكَذَا عَلَى الْأَوَّلِ وَالْأَرْجَحُ عِنْدِي التَّخْرِيجُ عَلَى الثَّانِي اهـ. كَلَامُ السَّمْهُودِيِّ.
وَوَجْهُ رَدِّ مَا حَكَاهُ لِمَا مَرَّ عَنْ ابْنِ الْعِمَادِ: أَنَّ الْحَنَفِيَّ حَكَمَ بِمُوجَبِ الْوَقْفِ عَلَى النَّفْسِ وَشَرْطِ التَّغْيِيرِ، وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ لَا يَقُولُ بِهِ الْمَالِكِيُّ وَلَا الشَّافِعِيُّ وَمَعَ ذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الْمَالِكِيِّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute