للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هَلْ صَادَفَ مَحَلًّا أَوْ لَا؟ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِمَذْهَبِ الْحَاكِمِ الْحَنَفِيِّ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ صَارَ كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْحُكْمِ الَّذِي بَعْدَهُ هَلْ يَسُوغُ وَإِنْ خَالَفَ مَذْهَبَ الْحَنَفِيِّ؟ فَقَالَ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ يَعُمُّ الْآثَارَ الَّتِي دَخَلَ وَقْتُهَا وَاَلَّتِي لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُهَا: هُوَ سَائِغٌ، وَقَالَ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ مُخْتَصٌّ بِمَا دَخَلَ وَقْتُهُ: لَا يَسُوغُ، فَإِعْرَاضُهُمْ عَنْ كَوْنِ حُكْمِهِ لَا يَرَى بِهِ الْمَالِكِيُّ، وَاخْتِلَافُهُمْ فِي أَنَّ الْحُكْمَ الثَّانِيَ يُعَارِضُ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ لِكَوْنِ الْأَوَّلِ شَمِلَ مَا حَكَمَ بِهِ أَوْ لَا يُعَارِضُهُ لِكَوْنِهِ لَمْ يَشْمَلْهُ صَرِيحٌ أَيْ: صَرِيحٌ فِي رَدِّ كَلَامِ ابْنِ الْعِمَادِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ وَالِاحْتِيَاجُ إلَيْهِ عَامٌّ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِ وَإِطْبَاقِ قُضَاةِ هَذَا الْعَصْرِ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا قَرَّرْتُهُ أَنَّهُ لَا تَلْفِيقَ هُنَا وَأَنَّ ابْنَ الْعِمَادِ اسْتَرْوَحَ فِي قِيَاسِ هَذَا عَلَى مَسْأَلَةِ مَسْحِ الرَّأْسِ.

وَسَيَأْتِي عَنْ السُّبْكِيّ آخِرَ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ تَنْفِيذَ الْحَاكِمِ لِحُكْمِ حَاكِمٍ آخَرَ تَصْحِيحٌ لَهُ وَقَطْعٌ لِلنِّزَاعِ فِيهِ وَقَالَ فِي فَتَاوِيهِ: التَّنْفِيذُ لَيْسَ حُكْمًا مُبْتَدَأً وَإِنَّمَا هُوَ بِنَاءٌ عَلَى الْحُكْمِ الْأَوَّلِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُهُ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُخَالِفَ إذَا نَفَّذَ حُكْمَ مُخَالِفِهِ صَارَ صَحِيحًا عِنْدَهُ مَقْطُوعَ النِّزَاعِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَلْزَمُ بِالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ فِيهِ، فَلَمْ يَنْظُرْ السُّبْكِيّ هُنَا لِتَلْفِيقٍ لِمَا قَرَّرْتُهُ أَنَّهُ لَا تَلْفِيقَ مَعَ النَّظَرِ لِلْحُكْمِ الْمُصَيَّرِ لِلْمَحْكُومِ بِهِ، كَأَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَمِمَّا يُرَدُّ أَيْضًا عَلَى ابْنِ الْعِمَادِ قَوْلُ أَبِي زُرْعَةَ فِي فَتَاوِيهِ: سُئِلْت عَنْ قَاضٍ مَالِكِيٍّ عَمِيَ، وَمَذْهَبُهُ بَقَاءُ وِلَايَةِ الْأَعْمَى، فَهَلْ تَنْفُذُ أَحْكَامُهُ حَتَّى لَا يَجُوزَ لِأَحَدٍ نَقْضُهَا، بَلْ يَجِبُ تَنْفِيذُهَا، كَمَا لَوْ قَضَى الْبَصِيرُ بِقَضَاءٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَضَى عَلَى وَفْقِ مَذْهَبِهِ فَأَجَبْتُ: بِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَنْعَزِلُ بِالْعَمَى، فَعَرَضَ لِبَعْضِ قُضَاتِهِمْ عَمًى فَإِنْ عَزَلَهُ السُّلْطَانُ انْعَزَلَ وَإِلَّا فَهُوَ بَاقٍ عَلَى وِلَايَتِهِ عَلَى مُقْتَضَى عَقِيدَتِهِ، فَإِنْ كَانَ السُّلْطَانُ أَيْضًا عَقِيدَتُهُ ذَلِكَ فَلَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْأَحْكَامِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ أَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ نَقْضُهَا وَلَا الِامْتِنَاعُ مِنْ تَنْفِيذِهَا كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا الَّتِي لَا تُخَالِفُ نَصًّا وَلَا إجْمَاعًا وَلَا قِيَاسًا جَلِيًّا، وَهَذِهِ كَذَلِكَ فَلَا يَسُوغ لِمَنْ يَرَى انْعِزَالَ الْقَاضِي بِالْعَمَى الِامْتِنَاعُ مِنْ تَنْفِيذِهَا وَلَا نَقْضُهَا وَلَا يُقَالُ: هَذَا غَيْرُ قَاضٍ عَلَى عَقِيدَةِ مَنْ رَفَعَ إلَيْهِ حُكْمَهُ فَكَيْفَ يُنَفِّذُهُ؟ وَإِنَّمَا يُنَفِّذُ أَحْكَامَ الْقُضَاةِ لِأَنَّا نَقُولُ: وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ الْمُخَالِفُ فِي وَضْعِ الْخِلَافِ، لَيْسَ حُكْمَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عِنْدَ مَنْ رُفِعَ إلَيْهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَنْقُضُهُ إذْ لَا قَاطِعَ عَلَى إبْطَالِهِ، وَكَذَلِكَ هَذَا لَا قَاطِعَ عَلَى انْعِزَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ السُّلْطَانُ عَلَى عَقِيدَةِ ذَلِكَ الْقَاضِي فَإِنْ عَلِمَ بِعَمَاهُ وَلَمْ يَعْزِلْهُ نَفَذَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَالظَّاهِرُ اسْتِمْرَارُ وِلَايَتِهِ أَيْضًا إلَى أَنْ يَعْزِلَهُ. اهـ.

وَفِيهِ فَوَائِدُ وَأَبْلَغُ رَدٍّ لِكَلَامِ ابْنِ الْعِمَادِ فَإِنْ قُلْتَ فِي فَتَاوَى السُّبْكِيّ: نَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا رُفِعَ إلَيْهِ حُكْمٌ لَا يَرَاهُ أَنَّهُ يُعْرِضُ عَنْهُ وَلَا يُنَفِّذُهُ، وَذَكَرَ الْأَصْحَابُ أَنَّهُ يُنَفِّذُهُ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ، فَمَا مَحْمَلُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ؟ قُلْت: يُحْمَلُ عَلَى حُكْمٍ يَنْتَقِضُ فَهَذَا إذَا رُفِعَ لِحَاكِمٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ إنْ لَمْ يُمْكِنْهُ نَقْضُهُ، وَإِلَّا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ إبْطَالُهُ وَنَقْضُهُ، وَاخْتَارَ السُّبْكِيّ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلًا، حَاصِلُ الْمَقْصُودِ مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ إنْ كَانَ مِمَّا اسْتَقَرَّ فِي مَذْهَبٍ مُعْتَبَرٍ وَلَمْ يَكُنْ مِمَّا يُنْقَضُ نَفَّذَهُ لِضَرُورَةِ الْمَحْكُومِ لَهُ لِئَلَّا يَبْطُلَ حَقُّهُ، وَإِنْ اعْتَقَدَ خَطَأَهُ لِاجْتِهَادٍ أَوْ لِشَيْءٍ فِي خُصُوصِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ أَعْرَضَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ تَنْفِيذَهُ لَهُ حِينَئِذٍ حُكْمٌ بِمَا لَا يَعْتَقِدُهُ وَهُوَ لَا يَجُوزُ.

قَالَ: وَقَوْلِي أَوَّلًا نَفَّذَهُ أَيْ جَوَازًا لِنَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ، فَأَقَلُّ دَرَجَاتِهِ الْجَوَازُ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُهُ وَإِنَّمَا جَوَّزْنَاهُ لِتَقَارُبِ الْمَأْخَذِ عِنْدَهُ وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ بَعْدَ الْحُكْمِ صَارَ كَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ مَعْنَاهُ عَدَمُ نَقْضِهِ لَا اعْتِقَادِهِ اهـ.

وَتَفْصِيلُهُ مُتَّجِهٌ إلَى قَوْلِهِ بِجَوَازِهِ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى، فَإِنَّهُ بَعِيدٌ لَا سِيَّمَا مَعَ قَوْلِهِ نَفْسِهِ إنَّ تَنْفِيذَهُ لِلضَّرُورَةِ لِئَلَّا يَضِيعَ حَقُّ الْمَحْكُومِ لَهُ فَإِنَّ هَذَا صَرِيحٌ فِي وُجُوبِهِ.

وَمَا عَلَّلَ بِهِ الْجَوَازَ لَا يُفِيدُهُ، أَمَّا النَّصُّ فَلِمَا عَلِمْتَ مِنْ مَحْمَلِهِ الَّذِي قَدَّمْتُهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُهُ إلَخْ فَيُرَدُّ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمَ مِنْ وُجُوبِ تَنْفِيذِهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَعْتَقِدُ حَقِيقَتَهُ، بَلْ أَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ بُطْلَانَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّا لَا نَعْتَقِدُ بُطْلَانَ أَحْكَامِ

<<  <  ج: ص:  >  >>