للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بِقَوْلِهِ: أَمَّا هَذَا السُّؤَالُ فَجَوَابُهُ: أَنِّي فَرَّقْت بَيْنَهُمَا فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ حَيْثُ قُلْت فِي بَابِ الْهِبَةِ: إلَّا إنْ اُسْتُهْلِكَ كَأَنْ تَفَرَّخَ الْبَيْضُ أَوْ نَبَتَ الْحَبُّ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ صَارَ مُسْتَهْلَكًا، قَالَ الشَّيْخَانِ عَنْ الْبَغَوِيِّ: هَذَا إذَا ضَمِنَّا الْغَاصِبَ بِذَلِكَ وَإِلَّا فَقَدْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَيَرْجِعُ، وَقَضِيَّتُهُ تَرْجِيحُ، الرُّجُوعِ وَبِهِ جَزَمَ الْبُلْقِينِيُّ وَاخْتَارَهُ الزَّرْكَشِيُّ وَهُوَ قِيَاسُ مَا قَالُوهُ فِي الْمُفْلِسِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يُفَرَّقُ: بِأَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الْبَائِعِ ثَمَّ آكَدُ مِنْ تَعَلُّقِ حَقِّ الْأَصْلِ هُنَا، كَمَا يُعْلَمُ مِنْ فُرُوعِ الْبَابَيْنِ وَفَارَقَ مَا هُنَا مَا ذَكَرُوهُ فِي الْغَاصِب بِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ لَا مِلْكَ لَهُ فَلَا يُفِيدُهُ هَذَا التَّغَيُّرُ حُدُوثَ مِلْكٍ، بِخِلَافِ الْفَرْعِ فَإِنَّ مِلْكَهُ صَحِيحٌ، وَمَا حَصَلَ مِنْ التَّغَيُّرِ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْمَوْهُوبِ عَلَى حَالِهِ، فَامْتَنَعَ بِسَبَبِ ذَلِكَ رُجُوعُ الْأَصْلِ.

(وَسُئِلَ) عَمَّنْ أَرْسَلَ شَيْئًا لِفَقِيرٍ فَهَلْ لِآخَرَ مِثْلِهِ فِي الْفَقْرِ أَخْذُهُ مِنْ الرَّسُولِ قَهْرًا أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْتُمْ: لَا فَمَا الْمُرَادُ مِمَّا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ: أَنَّ أَبَاهُ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ صَدَقَةً فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ الْحَدِيثَ وَهَلْ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ تَخَاصَمَا: لَك مَا نَوَيْت وَلَك مَا أَخَذْت مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ وَالْفَرْضِ أَوْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: لَيْسَ لِآخَرَ وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ فِي الْفَقْرِ أَوْ أَعْلَى مِنْهُ أَخْذُ ذَلِكَ مِنْ الرَّسُولِ قَهْرًا وَلَا اخْتِيَارًا سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ صَدَقَةُ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ، لِمَا قَرَّرَهُ الْأَئِمَّةُ أَنَّ الْمُرْسَلَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ مُرْسِلِهِ حَتَّى يَقْبِضَهُ الْمُرْسَلُ إلَيْهِ، وَمَا دَامَ لَمْ يَقْبِضْهُ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ مُرْسِلِهِ، وَقَدْ عَيَّنَهُ لِإِنْسَانٍ، فَلَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ أَخْذُهُ مُطْلَقًا.

وَأَمَّا حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ الْمَذْكُورُ فَيُعْلَمُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ تَرْجَمَتِهِ وَسِيَاقِهِ وَهُمَا بَابُ إذَا تَصَدَّقَ عَلَى ابْنِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا إسْرَائِيلُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْجُوَيْرِيَّةِ: إنَّ مَعْنَ بْنَ يَزِيدَ حَدَّثَهُ قَالَ: «بَايَعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَا وَأَبِي وَجَدِّي وَخَطَبَ أَيْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيَّ أَيْ: خَطَبَ لِي امْرَأَةً مِنْ وَلِيِّهَا فَأَنْكَحَنِي وَخَاصَمْت إلَيْهِ، وَكَانَ أَبِي يَزِيدُ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ فَجِئْت فَأَخَذْتهَا فَأَتَيْته بِهَا فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا إيَّاكَ أَرَدْت فَخَاصَمْته إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لَك مَا نَوَيْت يَا يَزِيدُ وَلَكَ مَا أَخَذْت يَا مَعْنُ» اهـ. فَتَأَمَّلْ التَّرْجَمَةَ تَعْلَمْ مَا صَرَّحَ بِهِ الْأَئِمَّةُ مِنْ أَنَّ فِي الْحَدِيثِ حَذْفًا لَا بُدَّ مِنْهُ تَقْدِيرُهُ فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَذِنَ لَهُ فِي أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى مُحْتَاجٍ إلَيْهَا إذْنًا مُطْلَقًا وَقَوْلُهُ فَجِئْتُ فَأَخَذْتُهَا مِنْ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التَّصَدُّقِ بِهَا بِإِذْنِهِ، لَا بِطَرِيقِ الِاعْتِدَاءِ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ الْبَيْهَقِيّ عَنْ أَبِي جُوَيْرِيَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قُلْت: وَمَا كَانَتْ خُصُومَتك؟ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَغْشَى الْمَسْجِدَ فَيَتَصَدَّقَ عَلَى رِجَالٍ يَعْرِفُهُمْ فَظَنَّ أَنِّي بَعْضُ مَنْ يَعْرِفُ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَضَمِيرُ أَتَيْته لِأَبِيهِ، وَقَوْلُهُ لَهُ مَا إيَّاكَ أَرَدْت مَعْنَاهُ لَوْ أَرَدْت أَنَّك تَأْخُذَهَا لَنَاوَلْتُهَا لَك وَلَمْ أُوَكِّلْ فِيهَا، وَكَأَنَّهُ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْوَلَدِ لَا تُجْزِي، أَوْ أَنَّهَا عَلَى الْأَجْنَبِيِّ أَفْضَلُ مِنْهَا عَلَى الْوَلَدِ، وَمَعْنَى لَك مَا نَوَيْت أَنَّك نَوَيْت أَنْ تَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى مَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهَا، وَابْنُك مُحْتَاجٌ إلَيْهَا فَوَقَعَتْ الْمَوْقِعَ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَخْطِرْ بِبَالِك أَنَّهُ يَأْخُذُهَا أَوْ أَنَّ أَخْذَهُ لَهَا لَا يَقَعُ الْمَوْقِعَ.

وَمَعْنَى: وَلَك مَا أَخَذْت يَا مَعْنُ أَيْ لِأَنَّك مُحْتَاجٌ إلَيْهَا فَوَقَعَ أَخْذُك لَهَا الْمَوْقِعَ، وَإِنْ خَالَفَ ظَنَّ أَبِيك، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: الظَّاهِرُ أَنَّ أَبَاهُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ لَهُ مَا إيَّاكَ أَرَدْتُ أَنِّي أَخْرَجْتُك بِنِيَّتِي، وَإِنَّمَا أَطْلَقْتُ لِوَكِيلِي أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى مَنْ تُجْزِي مِنِّي الصَّدَقَةُ عَلَيْهِ، وَلَمْ تَخْطِرْ أَنْتَ يَا مَعْنُ بِبَالِي، فَأَمْضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِطْلَاقَ لِأَنَّهُ فَوَّضَ لِلْوَكِيلِ بِلَفْظٍ مُطْلَقٍ فَنَفَّذَ فِعْلَهُ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُعْمَلُ بِالْمُطْلَقَاتِ عَلَى إطْلَاقِهَا، وَإِنْ اُحْتُمِلَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ الْمُطْلِقَ لَوْ خَطَرَ بِبَالِهِ فَرْدٌ مِنْ الْأَفْرَادِ لَقَيَّدَ اللَّفْظَ بِهِ.

وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِالْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ دَفْعِ الصَّدَقَةِ إلَى كُلِّ أَصْلٍ وَفَرْعٍ وَإِنْ لَزِمَتْهُ، نَفَقَتُهُ قَالَ فِي فَتْحِ الْبَارِي: وَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهَا وَاقِعَةُ حَالٍ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مَعْنٌ كَانَ مُسْتَقِلًّا لَا يَلْزَمُ أَبَاهُ يَزِيدَ نَفَقَتُهُ اهـ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ وَاقِعَةَ الْحَالِ الْقَوْلِيَّةَ إذَا تَطَرَّقَ إلَيْهَا الِاحْتِمَالُ أَفَادَهَا الْعُمُومُ بِخِلَافِ وَاقِعَةِ الْحَالِ الْفِعْلِيَّةِ، فَإِنْ تَطَرَّقَ الِاحْتِمَالُ إلَيْهَا يُسْقِطُهَا، وَهَذَا هُوَ

<<  <  ج: ص:  >  >>