الثَّانِي أَنَّ رِوَايَةَ " أَعْدَائِكُمْ " فِي طَعْنِ الْكَافِرِينَ مِنْهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَّا، وَرِوَايَةَ " إخْوَانِكُمْ " فِي طَعْنِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ لِلْكَافِرِينَ مِنْ الْإِنْسِ الثَّالِثُ أَنَّ كُلًّا مِنْ اللَّفْظَيْنِ يُفِيدُ مَا يُفِيدُهُ الْآخَرُ فَحَيْثُ جَاءَ بِلَفْظِ أَعْدَائِكُمْ فَهُوَ عَلَى عُمُومِهِ إذْ لَا يَقَعُ الطَّعْنُ إلَّا مِنْ عَدُوٍّ فِي عَدُوِّهِ، وَيَكُونُ الْخِطَابُ لِجَمِيعِ الْإِنْسِ فَإِنَّ الطَّعْنَ يَكُونُ مِنْ كَافِرِي الْجِنِّ فِي مُؤْمِنِي الْإِنْسِ أَوْ مِنْ مُؤْمِنِي الْجِنِّ فِي كَافِرِي الْإِنْسِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ «أَنَّهُ شَهَادَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَرِجْزٌ عَلَى الْكَافِرِينَ» ، وَحَيْثُ جَاءَ بِلَفْظِ إخْوَانِكُمْ فَهُوَ عَلَى عُمُومِهِ أَيْضًا لَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ أُخُوَّةُ التَّقَابُلِ كَمَا يُقَالُ: اللَّيْلُ، وَالنَّهَارُ أَخَوَانِ أَوْ أُخُوَّةُ التَّكْلِيفِ فَإِنَّ الْجِنَّ، وَالْإِنْسَ هُمَا الثَّقَلَانِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي التَّكْلِيفِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِزَادِ إخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنِّ فَإِنَّهُ زَادٌ لِلْمُؤْمِنِ، وَالْكَافِرِ جَمِيعًا ثُمَّ فِي تَسْلِيطِ الْجِنِّ عَلَى الْإِنْسِ بِالطَّعْنِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَإِنَّ أَعْدَاءَنَا مِنْهُمْ شَيَاطِينُهُمْ.
وَأَمَّا الْمُطِيعُونَ مِنْهُمْ فَهُمْ إخْوَانُنَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَمَرَنَا بِمُعَادَاةِ أَعْدَائِهِ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إلَّا مُسَالَمَتَهُمْ فَسَلَّطَهُمْ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةً لَهُمْ حَيْثُ أَطَاعُوهُمْ فِيمَا أَمَرُوهُمْ بِهِ مِنْ مَعَاصِيهِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُطِعْهُمْ فَهُوَ شَهَادَةٌ لَهُمْ، وَرَحْمَةٌ وَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْعُقُوبَاتِ تَقَعُ عَامَّةً فَتَكُونُ طُهْرًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَانْتِقَامًا مِنْ الْفَاجِرِينَ، وَإِنَّمَا مُكِّنَ الْجِنِّيُّ مِنْ طَعْنِ الْمُؤْمِنِ مَعَ أَنَّهُ مَحْرُوسٌ بِالْمُعَقِّبَاتِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَمِنْ خَلْفِهِ إرَادَةً لِلْخَيْرِ بِهِ، وَنَيْلًا لِدَرَجَةِ الشَّهَادَةِ كَمَا مَكَّنَ عَدُوَّهُ الظَّاهِرِ مِنْهُ لِذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ فِي أَكْثَرِ أَوْقَاتِهِ مَمْنُوعٌ مِنْهُ بِالرُّعْبِ تَارَةً، وَبِالْقُوَّةِ، وَالنَّصْرِ أُخْرَى وَلَا يُنَافِي كَوْنُهُ وَخْزُ الْجِنِّ وُقُوعَهُ فِي رَمَضَانَ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ بَلْ رُبَّمَا كَانَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الشَّيَاطِينَ، وَإِنْ كَانَتْ تُصَفَّدُ، وَتُغَلْغَلُ كَمَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ أَعْمَالَهَا تَبْطُلُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَحْصُلُ لَهَا بِذَلِكَ الْمَنْعُ مِنْ مُعْظَمِ الْعَمَلِ.
وَالْجَوَابُ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ طُعِنُوا قَبْلَ دُخُولِهِ وَلَمْ يَظْهَرْ إلَّا بَعْدَ دُخُولِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ تَصْفِيدَهُمْ إنَّمَا هُوَ عَمَّا يَأْثَمُ بِهِ الْآدَمِيُّ مِنْ تَحْسِينِ الْفُجُورِ لِيَقَعَ فِيهِ، وَأَمَّا هَذَا فَالْمُرَتَّبُ عَلَيْهِ ثَوَابٌ فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْهُ كَمَا لَا يُمْنَعُونَ مِنْ الِاحْتِلَامِ عَلَى أَنَّ تَصْفِيدَهُمْ فِيهِ اُسْتُشْكِلَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ وُجُودُ الْمَعَاصِي الْكَبَائِرِ، وَغَيْرِهَا فِيهِ، وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُصَفَّدُونَ مِنْهُمْ مُسْتَرِقِي السَّمْعِ فَقَطْ، وَأَنَّ تَسَلْسُلَهُمْ يَقَعُ فِي لَيَالِيه فَقَطْ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ لَا يَخْلُصُونَ فِيهِ إلَى إفْسَادِ الْمُسْلِمِينَ مِثْل مَا يَخْلُصُونَ فِي غَيْرِهِ لِاشْتِغَالِ الْمُسْلِمِينَ بِالصَّوْمِ الْقَامِعِ لِلشَّهَوَاتِ، وَبِالْقِرَاءَةِ، وَالذِّكْرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُصَفَّدَ بَعْضُهُمْ لَا كُلُّهُمْ، وَهُوَ الْأَصَحُّ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «إذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ مَرَدَةُ الْجِنِّ» .
عَلَى أَنَّ مَرَدَةَ نَعْتٌ مُخَصِّصٌ أَوْ بَدَلٌ مُخَصِّصٌ أَوْ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ إطْلَاقُ بَقِيَّةِ أَحَادِيثِ تَصْفِيدِ الشَّيَاطِينِ فَعَلَيْهِ يَحْصُلُ الْجَمْعُ بِأَنَّ الْوَخْزَ يَقَعُ فِي رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ الْمَرَدَةِ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَنَاءُ أُمَّتِي فِي الطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ» إمَّا الطَّلَبُ لِرِوَايَةِ أَحْمَدَ «اللَّهُمَّ اجْعَلْ فَنَاءَ أُمَّتِي فِي الطَّاعُونِ» ، وَفِي أُخْرَى عِنْدَ أَحْمَدَ، وَغَيْرِهِ «اللَّهُمَّ اجْعَلْ فَنَاءَ أُمَّتِي قَتْلًا فِي سَبِيلِك بِالطَّعْنِ، وَالطَّاعُونِ» أَوْ الْخَبَرُ لِقَوْلِ ابْنِ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ أَرَادَ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى فَنَاءِ الْأُمَّةِ الْفِتَنُ الَّتِي تُسْفَكُ فِيهَا الدِّمَاءُ، وَالْوَبَاءُ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ اسْتِشْكَالُ الْحَدِيثِ بِأَنَّ أَكْثَرَ الْأُمَّةِ يَمُوتُونَ بِغَيْرِ الطَّعْنِ، وَالطَّاعُونِ.
وَيَنْدَفِعُ أَيْضًا الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُمَّةِ الصَّحَابَةُ أَوْ الْخِيَارُ قَالَ الْجَلَالُ السُّيُوطِيّ: وَمَا قَالَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ صَحِيحٌ بِلَا شَكٍّ فَإِنَّهُ إذَا اُسْتُقْرِئَ الْأَمْرُ وُجِدَ مَنْ يَمُوتُ بِالطَّاعُونِ أَكْثَرَ مِمَّنْ مَاتَ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الطَّاعُونِ الَّذِي قَبْلَهُ فَكَيْفَ إذَا انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ الْقَتْلُ فِي الْجِهَادِ، وَفِي الْفِتَنِ وَلَمْ يَقْصِدْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لِلدُّعَاءِ الدُّعَاءَ عَلَى أُمَّتِهِ بِالْهَلَاكِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مِنْهُ حُصُولُ الشَّهَادَةِ لَهُمْ بِكُلٍّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ، وَالْمَوْتُ حَتْمٌ لَا بُدَّ مِنْهُ فَكَانَ الْقَصْدُ جَعْلَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْمَوْتِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْ دَعَا بِذَلِكَ لِيَكُونَ كَفَّارَةً لِمَا يَقَعُ بَيْنَ الْأُمَّةِ مِنْ الْعَدَاوَةِ كَمَا وَرَدَ أَنَّ الْقَتْلَ لَا يَمُرُّ بِذَنْبٍ إلَّا مَحَاهُ لَا مَحَالَةَ، وَبِذَلِكَ عُلِمَ الْجَوَابُ عَنْ اسْتِشْكَالِ الدُّعَاءِ بِالشَّهَادَةِ مَعَ اسْتِلْزَامِهِ تَمَكُّنَ الْكَافِرِ مِنْ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ مَعْصِيَةٌ، وَتَمَنِّي الْمَعْصِيَةِ حَرَامٌ، وَوَجْهُ الْجَوَابِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ قَصْدًا إنَّمَا هُوَ نَيْلُ الدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ الْمُرَتَّبَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute