إنَّ مما تميَّزت به علوم الحديث في الإسلام عنايتها بالرواية والإسناد، الذي يعد من أبرز خصائص هذه الأمة، وقد كان السلف الصالح يرون أن الإسناد من الذين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، يقول ابن المبارك:"مثل الذي يطلب أمر دينه بلا إسناد، كمثل الذي يرتقى السطح بلا سُلَّم".
ويقول سفيان الثوري:"الإسناد سلاح المؤمن، فإذا لم يكن معه معه سلاح بأي شيء يقاتل! ".
وعلى هذا فإن المسيرة التاريخية للسنة النبوية يمكن تقسيمها إلى مرحلتين زمنيتين كبيرتين، لك منهما معالمها وخصائصها المميزة: فأما الأولى فيمكن تسميتها بـ "مرحلة الرواية" وهي ممتدة من عصر الصحابة إلى نهاية القرن الخامس الهجري تقريبًا، وأبرز خصائصها هي كون الأحاديث تتلقى فيها وتنقل بواسطة الأسانيد والرواية المباشرة.
فالإسناد في هذه المرحلة كان بمثابة العمود الفقري عليه يتم الاعتماد في تلقي الأحاديث ونقلها.
وأما المرحلة الثانية فيمكن تسميتها بـ"مرحلة بعد الرواية"، وفيها آلت ظاهرة الاعتماد على الأسانيد إلى التلاشي، لتبرز مكانها ظاهرة الاعتماد على الكتب والمدونات التي صنفها أصحاب المرحلة الأولى في أخذ الأحاديث ونقلها، وإن كان القرن السادس الهجري يمكن اعتباره فترة انعطاف وتحول من مرحلة إلى أخرى؛ إذ ظهر فيه من بعض الأئمة الاعتماد على الرواية على شاكلة الأولى بدل الاعتماد على الكتب.
وبينما كانت الكتب المصنفة في المرحلة الأولى تنقل الأحاديث بأسانيدها الخاصة، فإن جل الكتب التي ظهرت في المرحلة الثانية إنما تنقل الأحاديث بالاعتماد على المدونات التي ظهرت في المرحلة الأولى، وإن كانت أساليب النقل، وطرق الأخذ تختلف من كتاب إلى آخر.
فمسند الإمام أحمد - مثلًا - وهو نموذج لكتب المرحلة الأولى، عمدته في نقل الأحاديث هي الإسناد والرواية المباشرة، ولذلك يقول فيه صاحبه:"حدثني فلان" إلى آخر الإسناد في كل حديث يذكره.