للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأما إنالته الثواب، فهو أن يفتح الباب ليعوده الناس أو يعزوه في المصائب أو يهنئوه على النعم، فإنهم ينالون بذلك ثوابًا وكذلك إذا امتنعوا عن المعاصي بأمره ونهيه. وأما إذا كان سببًا لاجتماع الناس على طاعة الله من صلاة وذكر وغيره أو هداية ضال ونحوه فذلك الغاية القصوى.

الفائدة السادسة: من فوائد المخالطة: التواضع؛ لأنه من أفضل المقامات ولا يقدر عليه في الوحدة وقد يكون الكبر سببًا في اختيار العزلة. كما روي في الإسرائيليات: أن حكيمًا من الحكماء صنف ثلاثمائة وستين كتابًا في الحكمة حتى ظن أنه قد نال عند الله منزلةً فأوحى الله - تعالى - إلى نبي زمانه أن قل لفلان: قد ملأت الأرض نفاقًا وإني لا أقبل من نفاقك شيئًا. قال: فتخلى وانفرد في سرب تحت الأرض وقال: الآن قد بلغت محبة ربي فأوحى الله إلى نبيه. أن قل له: بإنك لن تبلغ رضاي حتى تخالط الناس وتصبر على أذاهم فخرج فدخل الأسواق وخالط العامة وجالسهم وواكلهم فأوحى الله تعالى - إلى نبيه. أن قل له: الآن قد بلغت رضاي.

قال الغزالي: فكم من معتزل في بيته وباعثه التكبر ومانعه من المحافل أن لا يوقر ولا يقتدي به، ويري الترفع عن مخالطتهم أرفع لمحله.

الفائدة السابعة: التجارب، فإنها تستفاد من المخالطة للخلق ومجاري أحوالهم والعقل الغريزي ليس كافيًا في تفهم مصالح الدين والدنيا وإنما تفيدها التجربة والممارسة ولا خير في عزلة من لم تحنكه التجارب. ومن أهم التجارب أن يجرب الإنسان نفسه وأخلاقه وصفات باطنه وذلك لا يقدر عليه في الخلوة؛ فإن كل غضوب أو حقود أو حسود أو بخيل أو متكبر إذا لم يخالط الناس لم تتحقق هذه الصفات من نفسه ولا يدركها وهذه الصفات مهلكات في أنفسها يجب إماطتها وقهرها ولا يكفي تسكينها بالتباعد عما يحركها فمثال القلب المشحون بهذه الخبائث مثال دمل ممتلئ بالقيح والمدة وقد لا يحس صاحبه بألم ما لم يتحرك أو يمسه غيره فإن لم يكن له يد تمسه أو عين تبصر صورته ولم يكن معه من يحركه أو يمسه ربما يظن بنفسه السلامة ولم يشعر بالدمل في نفسه واعتقد فقده ولكن لو حركه محرك أو أصابه مشرط حجام لانفجر منه القيح وفار فوران الشيء المحتقن إذا حبس عن الاسترسال فكذلك القلب المشحون بهذه الأخلاق الذميمة إنما تنفجر خبائثه إذا حرك، فالمخالطة لها فائدة ظاهرة عظيمة في استخراج الخبائث وإطهارها ولذلك قيل: (السفر يسفر عن الأخلاق) فإنه نوع من المخالطة الدائمة ثم قال الغزالي: وستأتي فوائد هذه المعاني ودقائقها في ربع المهلكات فإنه بالجهل بها يحبط العمل الكثير وبالعلم بها يزكو العمل القليل.

<<  <   >  >>