المؤمنين، فإن أحدهم لو اختفى في جحر ضب أو فأرة مثلًا لقيض الله له من يؤذيه كما تقدم قريبًا؛ فيفعل الله سبحانه بعبده المؤمن رفعًا لدرجاته التي لا يبلغها إلا بفوادح البلاء.
وأما في الدنيا فيذع عليه بلاؤها ومحنها حماية له من الافتتان بها، وتزهيدًا له فيها بالبلاء؛ كيلا يطمئن إليها، ويألف محبتها فيقطعه ذلك عن منازل الآخرة فيبتليه سبحانه تعويضًا له، وترسيخًا لمقام الولاء، ليضعف صورة نفسه ويذيب صفات بشريته، ويقطع بالفقر والذل عنه مواد الهدى وزينة الدنيا، فيترك فاقته وفقره بمولاه في كل بأساء وضراء، فيألف الإقبال عليه، ويستوطن المثول بهمته بين يديه بالصبر، ئم الرضا إلى أن يرفعه بذلك إلى درجات الأحباب والأولياء.
وهذا معنى قوله:(إذا أحب الله عبدًا صب عليه (البلاء) صبًا).
أي إذا أراد رفعه إلى مقام محبوبيته، سلك به طريق محنه وبلائه لأن البلاء سبك الصفات فإنه يسبك نفس عبده بنار الامتحان والابتلاء، ليصفيه من كدورات أخلاق بشريته ليصلح لولايته.
وأنشدوا:
إن كنت تزعم حبنا وهوانا .... فلتلقين مذلة وهوانا
واسمح بنفسك إن أردت وصالنا ... واغضب عليها إن أردت رضانا
ولبعضهم:
تطرق أهل الفضل بين الورى ... مصائب الدنيا وأفاتها
كالطير لا تحب من جنها .... إلا التي تطرب أصواتها
ولغيره الصغر يرتفع في الرياض وإنما ... حبس الهزاز لأنه ترنم
وروى ابن أبي الدنيا - بسنده - عن يحيى بن سعد القطان، قال: بلغني أن أبي الدرداء- رضي الله عنه- كان يقول: ما من يوم أصبح فيه لا يرميني الناس بداهية إلا عددتها لله علي نعمة.
وأنشد حسان بن ثابت- رضي الله عنه-:
وإن امرؤ يمسي ويصبح سالمًا ... من الناس إلا ما مفلح ومجيد