فوق ذلك درجة أخرى. وهي الإحسان إلى من أساء إليك ومعاملته بضد ما عاملك به. بل يعتذر إليه ويستغفر لديك كما قال منشدًا:
إذا مرضنا أتيناكم نعودكم ... وتذنبون فنأتيكم ونعتذر
ومعنى ذلك أنك تنزل نفسك منزلة الجاني لا المجني عليه. لأن الجاني خليق بالعذر.
ولبعضهم:
رب رام لي بأحجار الأذى ... لم أجد بدًا من العطف عليه
ولغيره:
ولما رضوا بالحلم عن ذي ذلة ... حتى أنالوا كفه وأفادوا
وتكون هذه المعاملة منك صادرة عن سماح وطيب نفس وانشراح صدر لا عن كظم غيظ ومصابرة. ولم يكن كمال هذه الدرجة لأحد سوى نبينا صلى الله عليه وسلم ثم للورثة منها بحسب سهامهم من التركة، لأن حلمه غير محدود كما قد ملأ عفوه كل الوجود. فإنه جمع الآداب الشريفة والمعارف المنيفة، والفضائل المقصودة، والأخلاق المحمودة. حيث سواه سبحانه فعدل تركيبه، وأدبه فأحسن تأديبه، وجبله على الصيانة والعفاف. وعدل به ميزان العدل والإنصاف، وكان أكثر الناس حياء وأوفرهم على العورات إغضاء، وأدومهم بشرًا وأنسًا وأبسطهم خلقًا وأطيبهم نفسًا، يصل من قطعه ويعطي من منعه ويأمر بالحسنة ويدني أهلها ولا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويصفح. ويتجاوز عن المسيء ويسمح وكم أعرض عن جاهل ومعاند. وما ضرب بيده شيئًا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله اللهم صلِّ وسلِّم على محمد الحامد بجميع المحامد.
وفي الصحيحين ومسند أحمد وسنن ابن ماجه من حديث جابر رضي الله عنه قال: (أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة منصرفة من حنين. وفي ثوب بلال فضة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض منها ويعطي الناس فقال: يا محمد: اعدل فقال: ويلك. وم يعدل إذا لم أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل.
فقال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق. فقال: معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه. إن هذا وأصحابه يقرؤن القرآن ولا