للعجب ... إذ كان خيراً للمهدي أَنْ يُؤَدِّبَ هذا الكاذب الفاجر، ويترك الحمام من غير ذبح، بدلاً من أن يذبح الحمام ويترك من يستحق الموت حراً طليقاً ينعم بمال المُسْلِمِينَ، بل نحن نرى للمهدي تساهلاً آخر مع كذاب آخر، وهو «مقاتل بن سليمان البلخي» فقد قال له مقاتل: «إِنْ شِئْتََ وَضَعْتُ لَكَ أَحَادِيثَ فِي العَبَّاسِ وَبَنِيهِ» فقال له المهدي: «لاَ حَاجَةَ لِي فِيهَا ... » ثم لم يفعل معه شيئاً. بل نجد أنهم ذكروا عن الرشيد وقد روى له أبو البختري الكَذَّابُ حَدِيثًا مكذوباً،
«أن النَّبِيَّ كَانَ يُطَيِّرُ الحَمَامَ!» لا يزيد في تأنيب أبي البختري - وقد أدرك كذبه - على أن يقول له:«أُخْرُجْ عَنِّي، لَوْلاَ أَنَّكَ مِنْ قُرَيْشٍ لَعَزَلْتُكَ» وقد كان هذا الكذاب قاضياً للرشيد ... إن هذه المواقف مِمَّا يحاسب الله عليها هؤلاء الخلفاء إِنْ صَحَّتْ عنهم تلك الروايات، وإذا كنا نذكر لهم فضل تَعَقُّبِهِمْ للزنادقة الذين أفسدوا دين الإسلام، فإننا لا ننكر أن من الدوافع التي حملتهم على تَعَقُّبِهِمْ بالقتل هو أنهم كانوا خارجين على حكمهم بدليل أننا لم نرهم فعلوا بِالكَذَّابِينَ وَالوَضَّاعِينَ الذين تقربوا إليهم بالكذب على رسول الله إِرْضَاءً لأهوائهم، عُشْرَ ما فعلوه مع الخارجين على حكمهم، ولقد كان القُصَّاصُ يملأون المساجد بأكاذيبهم على مسمع من الأمراء والملوك، وكان الكَذَّابُونَ مِنَ الزُهَّادِ وغيرهم يسرحون ويمرحون دُونَ أن يجدوا من يضرب على أيديهم ويوقفهم عند حَدِّهِمْ، ولولا أن هَيَّأَ الله لدينه من العلماء الأثبات والأئمة الحفاظ في كل مصر وعصر، يَذُبُّونَ عن شريعة الله تحريف المُحَرِّفِينَ، وَيُجَرِّدُونَ سُنَّةَ رسول الله من كل ما خالطها من دَسٍّ وتحريف، لكانت المصيبة شاملة، ولكانت معالم الحق في دين الله مدروسة مطموسة، لا نستطيع أن نهتدي إليها إلا بشق الأنفس، وهيهات أن نصل إلى لُبَابِ الحق لولا نهضة السلف الجبارة التي قَاوَمُوا بها الوضع وَالوَضَّاعِينَ، وحفظوا بها حديث رسول الله من الكذب وَالكَذَّابِينَ إلى يوم الدين.