في الغالب عن قلة اطلاع، أو قصر نظر، أو غفلة عن حقائق أخرى، إن فتح الباب على مصراعيه لمثل هؤلاء الناقدين، يؤدي إلى فوضى لا يعلم إلا الله منتهاها، وإلى أن تكون السُنّةُ الصحيحة غير مستقرة البنيان ولا ثابتة الدعائم، ففلان ينفي هذا الحديث، وفلان يثبته، وفلان يتوقف فيه، كل ذلك لأن عقولهم كانت مختلفة في الحُكْمِ والرأي والثقافة والعمق، فكيف يجوز هذا؟. ثم أليس لنا أكبر عبرة فيما وقع فيه مؤلف " فجر الإسلام " من أخطاء بشعة حين أراد أن يسير في هذا الاتجاه، فَكذَّبَ ما لا مجال لتكذيبه، وحكم بوضع ما قامت الأدلة والشواهد على صحته! وإليك البيان.
هذا حديث أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من أئمة الحديث، وفهم منه المؤلف أن مراد الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الإخبار بانتهاء الدنيا بعد مائة سَنَةٍ ومن هنا حكم عليه بالوضع، لمخالفته للحوادث التاريخية والحس والمشاهدة.
ولكن هذا الحديث الذي ذكره، هو جزء من حديث كامل أخرجه البخاري في باب السمر في الفقه والخير بعد العشاء من كتاب الصلاة، وهو أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلاَةَ الْعِشَاءِ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ «أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ؟ فَإِنَّ عَلَى رَأْسِ مِائَةٍ سَنَةٍ لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ (الْيَوْمَ) عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدٌ». فَوَهِلَ النَّاسُ فِي مَقَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى مَا يَتَحَدَّثُونَ [مِنْ] هَذِهِ الأَحَادِيثِ عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ «الْيَوْمَ» عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهَا تَخْرِمُ ذَلِكَ الْقَرْنَ، فهذا نص الحديث واضح في «أَنَّ الرَّسُولَ أَخْبَرَ أَصْحَابَهُ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ» وجاء في رواية جابر - قبل وفاته بشهر - أن من كان منهم على ظهر الأرض حَيًّا حين قال الرسول تلك المقالة لا يعمر أكثر من مِائَةِ سَنَةٍ، ولم يفطن بعض الصحابة إلى تقييد الرسول بمن هو على ظهرها - اليوم - فظنوه على إطلاقه وأن الدنيا تنتهي بعد مِائَةِ سَنَةٍ، فنبههم ابن عمر إلى القيد في لفظ الرسول وَبَيَّنَ لهم المراد منه، وكذلك فعل علي بن أبي طالب في رواية الطبراني.