ابن الحارث بن زُهْرَةَ القُرَشِيِّ الزُّهْرِيِّ، ولد سَنَةَ إحدى وخمسين على الأرجح، كان أبوه مسلم بن عبيد الله مِمَّنْ اشترك مع عبد الله بن الزبير في حروبه ضد الأُمَوِيِّينَ، ولما توفي أبوه ترك الزُّهْرِيَّ شاباً حدثاً لا مال له ولا متاع، فنشأ يتيماً فقيراً لا مُرَبِّي له يُعْنَى بشأنه غير أخ أكبر منه لم يرو التاريخ عنه شيئاً يذكر.
توجهت عنايته قبل كل شيء إلى حفظ القرآن، فَأَتَمَّهُ في ثمانين ليلة كما يقول ابن أخيه محمد بن عبد الله بن مسلم، ثم أخذ يَتَرَدَّدُ على عبد الله بن ثعلبة يتعلم منه أنساب قومه، ثم رأى بعد ذلك أنْ يتحول إلى معرفة الحلال والحرام ورواية الحديث، فطاف على من استطاع لقاءه من الصحابة، وهم عشرة: منهم أنس وابن عمر وجابر وسهل بن سعد، على خلاف في بعضهم ثم جلس إلى كبار التَّابِعِينَ في عصره، كسعيد بن المسيب، وعُروة بن الزبير، وعُبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، وأكثر من صحب من هؤلاء هو الإمام الجليل سعيد بن المسيب، جلس إليه ثماني سنين متواصلة، وكان كثير الترداد على الشام، وفد إليها لأول مَرَّةٍ في زمن مروان وهو محتلم، ثم اتصل بعبد الملك بعد مقتل عبد الله بن الزبير، واتصل بالخلفاء من بعده: الوليد وسليمان، وعمر بن عبد العزيز، ويزيد الثاني وهشام بن عبد الملك، وكان يتردد إلى العراق ومصر، حتى وافته المَنِيَّةُ بضيعته في (أدامي) آخر عمل الحجاز، وأول عمل فلسطين، سَنَةَ أربع وعشرين ومائة على الأرجح، وعمره اثنان وسبعون سَنَةً، وأوصى أنْ يدفن على قارعة الطريق حتى يَمُرَّ به مَارٌّ فيدعو له - رَحِمَهُ اللهُ ورَضِيَ عَنْهُ -.
أَبْرَزُ أَخْلاَقِهِ وَصَفَاتِهِ:
كان قصيراً قليل اللحية، خفيف العارضين، يصبغ رأسه ولحيته بِالحِنَّاءِ، أُعيمش، فصيح اللسان، وكان يقال:«فُصَحَاءُ أَهْلُ زَمَانِهِمْ ثَلاَثَةٌ: الزُّهْرِيُّ، وَعُمَرَ بِنِ عَبْدِ العَزِيزِ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ» ومن أشهر أخلاقه الكرم والسخاء فقد كان في ذلك آيةً عجباً، قال الليث بن سعد: «كَانَ ابْنُ شِهَابٍ مِنْ أَسْخَى مَنْ رَأَيْتُ، يُعْطِي كُلَّ مَنْ جَاءَ يَسْأَلُهُ، حَتَّىَ إِذَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ يَسْتَلِفُ مِنْ أَصْحَابِهِ فَيُعْطُونَهُ، حَتَّىَ إِذَا لَمْ يَبْقَ مَعَهُ شَيْءٌ اسْتَلَفَ مِنْ عَبِيدِهِ، وَرُبَّمَا جَاءَهُ السَّائِلُ فَلاَ يَجِدُ مَا يُعْطِيهِ فَيَتَغَيَّرُ عِنْدََ